الجمعة، 3 يناير 2014

استراتيجيات عقلانية التأييد في نقد التراث عند طه عبد الرحمن

mohamedseghrirتمهيد:
قبل أن نبدأ في عرض المنهج الذي دعا إليه الدكتور طه عبدالرحمن في تقويم التراث، وتقديم نظرية تكاملية لفهم التراث واستيعابه، ينبغي علينا بدء ذي بدء أن نصنف الاستراتيجيات المختلفة التي حاولت أن تفهم وتستوعب التراث سواء برفضه كلياً أو قبوله إنتقاءاً أو كلياً ؛ ويمكننا صياغة المعنى السابق اصطلاحياً كالآتي: «إستراتيجيات القطعية مع التراث» و «إستراتيجيات إقامة الصلة مع التراث» 1، وهي مشاريع فكرية وفلسفية مارست النقد (وأحياناً النقض والتقويض) للتراث، مستخدماً في ذلك ومستفيدة من أدوات الحداثة وآلياتها التفكيكية. 

وفي إطار الحديث عن النقد والتفكيك التي آتت به حداثة الفلسفة المعاصرة، يتأتي الحديث عن النقد المعاصر للتراث أو بالأحرى التقويمات المعاصرة للتراث، وقد طغى عليها في معظمها كما يرى الدكتور طه عبدالرحمن النظرة التجزيئية التفاضلية، التي نظرت في مضامين النصوص التراثية بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة متناسية الوسائل التسديدية والتأنيسية التي عملت في تأصيل وإنتاج هذه المضامين التراثية.
وقد «بنى طه مقاربته لحقيقة ومنهج التراث على منهجية وآلية وعملية واعتراضية، فأما الآلية فتجسدت في الاعتراض على مقاربة التراث بتسليط آليات منقولة عليه مما يُفضي إلى نظرة تجزئيية ظاهرة التهافت! ولذلك فإن حقيقة التراث هي مضامينه التي تجتمع إلى الآليات التي أنتجتها ومنهج التراث هو الذي يتمثل في الممارسة والإشغال التراثي في مظهريه التكامليين : التداخلي والتقريبي[...]، وإما العملية فتتمثل في تفعيل التراث وإعماليه لأن عقل التراث عقلاً واسعاً وعلمه نافع يجمع إلى النظر في الأسباب، ومقاصد العمل بها، وأخيراً تأتي المنهجية الاعتراضية التي انطلق منها د.طه لتُبطل ما تعرض له التراث من قراءات أهملت جوانبه المضيئة وقصرت في تبيان مجالات إمكان الاستئناف والمواصلة في العطاء» 2.
وفي ذلك يأتي قوله تأكيداً «لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت، في مقصدها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعًا، عملاً بمبدأ تراثي، مقضاه [أن اعتبار المعاني لا يستقيم حتى يستند إلى اعتبار المبادئ]؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدأ تراثي ثانٍ، مقضاه [أن المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها]؛ وكانت، في مسلكها، أخيرًا منهجية اعتراضية لا عَرْضية: فلم تكن تقرر الأحكام تقريرًا وترسلها في عموم التراث إرسالاً، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تحمصها كما ينبغي وتقومها بالوجه الذي ينبغي، عملاً بمبدأ تراثي ثالث، مقتضاه [أن الظفر بالصواب لا يكون إلا بمعونة الغير]» 3.
- نقد الخطابات التجزيئية (للعقلانية المجردة ) في القراءة المعاصرة للتراث
يرتكز عمل الدكتور طه عبدالرحمن في مسألة تجديد النظر إلى التراث على شيئين أساسيين.
أولهما: نقده للخطابات التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث والكشف عن مظاهرها الأساسية التي يتجلى فيها هذا التجزيئي المجرد للمحتوى التراثي والوقوف على الأسباب العامة التي أدت إلى ذلك، وقد انطلق من دعوى مفادها «أن التقويم الذي يغلب عليه عملية الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين، يقع في نظره تجزيئية إلى التراث 4.
«هذه الدعوى استند في إثباتها إلى مقدمة التركيب المزدوج للنص، واعتبر أن كل نص حامل لمضمون مخصوص، وأن كل مضمون مبني بوسائل معينة، ومصُوغ على كيفيات محددة، بحيث لا يتأتي استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص إلا إذا أحيط علماً بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية. لذا فكل قراءة تراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها، واقعة في الإخلال بحقيقة التلازم طرفي النص المضمون والآليات، كما أن تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء بينها تفاضل، وانتقاء ما حسن منها ينتمي أصحابها إلى النزعة المضمونية، التي حملتهم على اعتناق النظرة التجزيئية، بالإضافة إلى توسلهم بآليات مستمدة من مجالات ثقافية أخرى غير التراث العربي الإسلامي، يسميها طه عبدالرحمن بالآليات الاستهلاكية، وقد حصرها في صنفين أساسيين هما: الآليات العقلانية، والآليات الأيديولوجية والفكرانية» 5.
وثاني مرتكزات الدكتور طه في تجديد النظر إلى التراث هو إبداعه في «تجديد عطاء التراث واستئناف بناءه»، فيرى الدكتور طه أن التراث واحد في حد ذاته ومتعدد باعتبار الذات القارئة له أو بالأحرى باختلاف القراءات والرؤى له، فيقول: «إن التراث بوصفه جملة وقائع معلومة يبقى واحداً لا تعدد فيه ولو أن الطرق الموصلة إلى هذه الوقائع هي بعدد المفكرين الذين اشتغلوا به وصفاً أو نقداً» 6.
«غير أن الكثرة التي تناولت التراث بين وصف ونقد لم تصب في طلبها النهوض بالتراث واستئنافاً لبنائه وتجديداً لعطائه، وهذا يرجع، في نظر د.طه عبدالرحمن إلى قصور الفهوم عن طلب حوار مع التراث يتوسل بآليات حديثة منقحة ويشحذ، في نفس الوقت، آليات إنتاج النص التراثي نفسه، فما هي الخطة القويمة لتجديد عطاء التراث واستئنافه عند د.طه عبدالرحمن؟» 7.  
ويؤسس الدكتور طه رؤيته للنهوض بالتراث على عدة محاور أهمها:
«الاحتكام إلى المجال التداولي الإسلامي روحاً ومنهجاً [...]، التحرر من أي سلطة فكرية غربية توجه البحث، ومن هنا وضع حداً لمرجعيات تحشر نفسها في كل قضية، وأزاح كابوس الإحالات المفتعلة والمغرضة لدى الكثيرين من أصحاب القراءات [...]، وضع ما سماه الآليات الإنتاجية، التي رتب قوانينها، وبين خصائصها، فأصبح مشروعه هرماً معمارياً من المصطلحات والمفاهيم التي تم تشكيلها بتلقائية» 8. ومن أهم هذه المحاور أيضاً «استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء» 9.
وبذلك يمكننا أن نقول: أن الدكتور طه صار في نظرته إلى التراث أكثر حداثة من غيره ويتضح ذلك في أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها ووسائلها النافعة ولما يكتفي بذلك فقد بل طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا التراثية وبذلك فتح الطريق أمام العقل العربي للإبداع من خلال استخراج وتبديل الآليات المنتجة للنص التراثي، ونقد وتمحيص الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الغربي، وفي هذا يقول الدكتور طه ينبغي «الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي» 10. 

نقد النموذج الجابري «التجزيئي التفاضلي» في تقويم التراث
«لقد اتخذ الجابري النقد سبيله للنهوض بالتراث مهتدياً بالعقلانية، وغايته نقد أنظمة المعرفة، متوسلاً بآليات منهجية ومضامين معرفية غربية من قبيل مفهوم العقلانية ومفهوم السلطة ومفهوم القطيعة، والذي يعنينا هنا هو الإستراتيجية التي اعتمدها الجابري للنهوض بالتراث» 11، وهي الإستراتيجية التي استهدفها الدكتور طه عبدالرحمن بالتحليل والنقد.
يقول الجابري في كتابه (نحن والتراث) «الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه [الحلول] الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل. وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضاً على التيارات الأخرى باعتبار أن لكل منها سلف يتكئ عليه ويستنجد به» 12 . «من الملاحظ أن الجابري قد انتقد المرجعيات أو القراءات التي عدها سلفية، فما هي مرجعيته؟ يبدو أنه ادعى مقاربة التراث موضوعياً وتاريخياً مستلهماً من العقلانية الغربية أدواته، داعياً إلى تحقيق قطيعة مع النظرة التراثية لحل مشكلة الموضوعية وخلق سُبل الاستمرارية أو الاستئناف. هل حقق الجابري قطيعة فعلية مع الفهم التراثي للتراث؟ إذا كانت إيجابية الموقف الجابري من التراث تقضي بأن رفض التراث موقف لا علمي، ولا تاريخي، هو ذاته من رواسب الفكر التراثي في عصر الانحطاط! فإنه مع ذلك، إذ يطلب كسر بنية العقل المنحدر إلينا من عصر الانحطاط، وتأسيس عصر تدوين جديد، لا نجده يُقرُّ بهذا المطلب بقدر ما يسقط في الاستنجاد بالحاضر وإسقاطه على الماضي، أي اتخاذ سلف خاص هو الغرب موضوعاً بين قوسين! هذا بالإضافة إلى كون التأسيس الذي يدعو إليه يُسقط هواجس الحاضر السياسي على الماضي ليستمد منها أسباب النهوض» 13.
كانت غاية الجابري النقدية تستهدف في نفس الوقت «مجاوزة التراث وتحقيق الحداثة بالتماس شروط مد الحاضر في التراث الماضي، وهذه الشروط التي ليست في حقيقة الأمر سوى نتائج الحداثة الغربية، وبهذا قام الجابري بعكس ما انتقد به غيره من سهولة (الهروب إلى الأمام!) إذ وقع في (الهروب إلى الوراء!). يتخذ الجابري العقلانية كمرجعية مطلقة، غير أنه ليس من السهل بناء نظام تصوري دقيق ومحدد لموقفه من التراث، لأن آلية الفصل والوصل المزعومة في كتاب نحن والتراث لم يتحقق بواسطتها تحديد (النحن)! لانغماسها وذوبانها في الهاجس السياسي، ولعدم فهم التراث فهماً موضوعياً خارج إسقاطاته التي لا تستوعب لا المرجعية الغربية ولا تحقق التأسيس لامتناع شروطه الكاملة وانحصاره في دائرة التاريخ والسياسة وعدم إنجاز الحوار المطلوب مع التراث» 14.
ويسمى الدكتور طه عبدالرحمن مثل هذه الاتجاهات بالاتجاه المعكوس صاحب الآراء المنكوسة في فهم التراث 15 ، إذ يقول : «إن قراءة الجابري (الإبستمولوجية) أتت من العثرات المنهجية والثغرات في المعلومات ما قد يرفع عن قراءته في التراث القيمة العلمية المزعومة، ويُشكك في صلاحية استثمار مقرراتها في مجال الدرس التراثي» 16.
يواصل الدكتور طه عبدالرحمن نقده إلى العقلانية  المجردة والنظرة التجزيئية في قراءة التراث من خلال نقده لنموذج الدكتور محمد عابد الجابري، باعتباره أكثر المفكرين العرب المعاصرين اشتغالاً بوضع نظرية لفهم وتحليل التراث، وباعتباره أيضاً أحد أهم المنظرين لذلك. يقول الدكتور طه في نقد نموذجه تحت عنوان «دعوى التعارض الأصلى لنموذج الجابري» «إن نموذج الجابري في تقويم التراث يقع في تعارضين اثنين، أحدهما التعارض بين القول بالنظرة الشمولية والعمل بالنظرة التجزيئية، والثاني التعارض بين الدعوة إلى النظر في الآليات وبين العمل بالنظر في مضامين الخطاب التراثي في الآليات» 17.
والمطالع لكتابات الجابري سيجد أنه يتخذ منهج شمولي في تقويم التراث، وينكر على المستشرقين قراءتهم للتراث العربي والإسلامي، ويقوم بتفكيك وحدات التراث إلى جزاء متناثرة، وهو –أي الجابري- يؤكد منحاه الفكري الشمولي ذلك في كتابه بنية العقل العربي، إذ يقول: «إن النظرة الكلية لها ما يبررها، سواء تعلق الأمر بعلم البلاغة، أو بعلم النحو، أو علم الفقه وأصوله، أو بعلم الكلام، فهذه العلوم مترابطة متداخلة بصورة تجعل منها مظاهر أو فروعاً لعلم واحد هو البيان» 18.
 فعلى الرغم من هذا البناء الشمولي للتراث عند الجابري، إلا أنه من وجهة نظر الدكتور عبدالرحمن طه «قد وقع في التناقض بين النظرة الشمولية وبين التطبيق التجزيئي، الذي دعا فيه إلى التعامل مع العلوم العربية على اختلافها بصورة تجزيئية، إذ قسمها إلى أنظمة معرفية متفاضلة لا رابطة بينها، وهي: النظام المعرفي البرهاني، كون البرهان مقولة متعلقة بالصورة الاستدلالية العقلية، والنظام المعرفي البياني، كون البيان مقولة متعلقة بالصيغة اللفظية، والنظام المعرفي العرفاني، كون العرفان مقولة متعلقة بالمضمون المعرفي». ويعقب الدكتور طه عبد الرحمن على ذلك بعدما يورد نموذجين من نصوص القدامي التي استقى منها الجابري هذا التقسيم الثلاثي، وهما : «لطائف الإشارات» للقشيري ، كتاب «الصوفية في إلهامهم» إذ يقول ناقداً لمنهجية الجابري الشمولية ابتداء ثم المتعارضة عند التطبيق إلى تجزيئية مجحفة:«وإذا اتضح لنا أن الجابري، اتجه، عند ولوجه باب التطبيق، إلى تقسيم التراث إلى أجزاء متباين بعضها من بعض ومستقل بعضها عن بعض وإلى تفضيل جزء واحد منها على باقي الأجزاء الأخرى، فلا يبقى أي معنى لدعوته إلى الشمولية والتكامل، على خلاف ما يدعيه ألا ترى أن وحدة التراث تتفكك في يده إلى أجزاء متعارضة متعالية فيما بينها؟» 19.
والاعتراض الثاني الذي رآه الدكتور طه عند الجابري هو استمداد الجابري لمفاهيم منقوله من مجال تداولي غربي، ونقلها إلى التراث ، من قبيل «العائق الإبستمولوجي»، و«مفهوم القطيعة المعرفية» و «النزعة الأكسيومية» وغيرها من مفاهيم أخرى تداولية.  
«لقد سعى الجابري إلى إنجاز قراءة لم تمارس الحفر المعرفي الخالص في الفكر الإسلامي، قدر ما حاولت إنجاز قراءة توخت رسم علاقة إيجابية مع التراث، أقل ما يقال عنها أنها تأخذ (شاهداً) من الحاضر لتبحث له عن إرهاصات في الماضي تتمسك به للبقاء» 20.
وقد أبطل الدكتور طه عبدالرحمن التقويم التفاضلي للتراث ممثلاً في نموذجه الجاربري، رحمه الله، «وكشف تقويمه التجزيئي، وقصوره الآلي، واشتغاله بالمضامين، وتوسله بآليات منقولة، مع نزوحه نحو العقلانية المجردة والفكرانية المسيسة» 21.

العقلانية المؤيدة تبدع نظرية تقويمية تكاملية للتراث
من بين الأسباب التي دفعت الدكتور طه عبدالرحمن إلى إنشاء نظرية تكاملية في التراث، «وضع حد للرؤية التجزيئية للتراث، والعقلانية المجردة حين تركب الأهواء، وتلقى الأمة في فوهة التشيؤ والذوبان، وخاصة عندما تتفاحش التبعية والاستمداد من ثقافة مجالها التداولي مختلف» 22.
ودعا الدكتور إلى نبذ مثل هذه القراءة الناقصة للتراث، وإبطل فحواها، بالآلية المنهجية التي مافتأ يستخدمها، لزحزحة هذا التقليد المعاصر في تقويم التراث. وفي ذلك يقول الدكتور طه عبدالرحمن : «أن الحاجة تدعو إلي إنشاء تراث جديد، لا لَوْك أحكام عن تراث قديم [...]،وإنما المطلوب هو صنع خطاب جديد، أي بناء تراثنا الحاضر كما بني المتقدمون تراثهم الماضي، وبدهي أنه لا سبيل إلى بناء هذا التراث الحي إلا بتحصيل أسباب المعرفة على وجهها الأوسع، وتحصيل أسباب العمل على وجهها الأنفع، ثم التوسل بكل ذلك في إنشاء خطاب يضاهي قيمة خطاب المتقدمين، كما يضاهي عطاء خطاب المعاصرين» 23.
ومن بين الأسس المنهجية التي اعتمدها د.طه في تقويمه للتراث «معرفة جوهرها الوحي، ومرتكزها العقيدة الإسلامية، معرفة تصل العقل بالغيب وتصل العلم بالعمل، معرفة تقوم على أصول ثلاثة: العقيدة واللغة والمعرفة» 24.
وكما نرى أن هذه الأسس المعرفية هي الأسس التي تقوم عليها العقلانية المؤيدة.
وهنا نلمح كيف أسهمت العقلانية المؤيدة في شيئين مهمين نحو مسألة التراث:
أولاً : نقد النماذج التجزيئية التفاضلية
ثانياً : تجديد النظر إلى التراث العربي الإسلامي، ومن ثم إنشاء نظرية تقويمية تكاملية لفهمه واستيعابه والاستمداد منه، لذلك وجد الدكتور ضرورة في إنشاء منهج رصين لذلك وضع أسسه في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» فهو يدخل ضمن «المشاريع المستحدثة في قراءة التراث الإسلامي العربي وتقويمه. فبعد صدور كتابيه : في أصول الحوار وتجديد علم الكلام 1987، والعمل الديني وتجديد العقل 1989، يُقدِّمُ طه مشروعاً جديداً يريد به تجاوز المشاريع السابقة بتمحيصها نظرياً ومنهجياً، والكشف عن أوهامها وخلفياتها، والدعوة إلى الارتباط بالتراث روحاً ومنهجاً، والتمسك به علماً وعملاً» 25، ثم بعد ذلك يؤسس للعمل الذي نذر نفسه له. وهو: «إنشاء نظرية مستقلة في تقويم التراث حرصنا فيها أشد الحرص على أن تستوفي مسائلها مقتضيات المنهجية» 26.
وتأكيداً لذلك يقول الدكتور عباس أرحيله أحد المفكرين المهتمين بفكر الدكتور طه عبدالرحمن أنه لما حدث «انقلاب في القيم بين المشتغلين بتقويم التراث، الأمر الذي أحدث معه تقلب في المقاصد وتشتت في المسالك، فشاع التمويه والتزييف في تقويم التراث حتى أضحى ذلك التمويه باطلاً مشهوراً لا خصيم له، أمام هذه الوضعية الفكرية في تقويم التراث وأمام هذا النزوع إلى الانقطاع عنه ووأد الشعور به، أما هذا الانقلاب والتقلب والتشتت والانعكاس والتمويه وذيوع باطل بدون رادع، جاءت الأسباب المباشرة في «تقديم نظرية جديدة في تكامل التراث في ضوء القواعد المنهجية المستمدة من طبيعة ذلك التراث، أي من مجاله التداولي 27 –عقيدة، وفكراً، ولغة- ومن الآليات المنهجية التي أنتجته» 28.
وختاماً ..فعقل التراث عقلاً واسعاً ومؤيداً
يمكننا الإقرار بأنه ما دام  هناك عقلانية مجردة استعملت آليات محدودة في نقد التراث، على حد تعبير الدكتور طه، فلابد أن توجد أيضاً عقلانية مؤيدة يمكنها أن تتكامل في نظرتها إلى التراث. وفي ذلك يقول الدكتور طه «فعقل التراث عقل واسع يجمع، إلى النظر في الأسباب، النظر في المقاصد، وعلمه علم نافع يجمع، إلى النظر في الأسباب والمقاصد، العمل بها وفق ما يفيد الغير ويفيد الآجل، بينما عقل الآليات المنقولة عقل ضيق يقطع الأسباب عن مقاصدها، وعلمها علم مشبوه، لا يوجد العمل ويحتمل الضرر، وشتان ما بين العقلين وما بين العلمين!» 29.  هكذا نرى الدكتور طه يعود ويذكرنا بمسلمته الفلسفية المحورية في درجات العقلانية، فشتان ما بين العقل المجرد والعقل المؤيد سواء في فهم التراث أو التعاطي معها أو في فهم الوجود بشكل عام.

 *********************
الهوامش :
1.    يمكن تصنيف أصحاب هذا الاتجاه إلى قسمين: فريق يدعو إلى النهوض بالتراث من منطلق نقدي تجزيئي يبتغي الوصل مع اللحظات التراثية القادرة على الإجابة عن راهن الأسئلة المطروحة على العالم العربي الإسلامي، ويمثل هذا الاتجاه المفكر المغربي محمد عابد الجابري. إما الفريق الآخر فيدعو إلى النهوض بالتراث من منطلق نقدي تكاملي يبتغي تحقيق الوصل مع التراث في كليته، ويمثل هذا الاتجاه الدكتور طه عبدالرحمن.
2.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 2009، ص169.
3.     د.طه عبدالرحمن،  تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، بيروت – لبنان (الدار البيضاء – المغرب)، الطبعة الرابعة، 2012م، ص421.
4.    المرجع السابق، ص23.
5.    بو زبرة عبدالسلام، «طه عبدالرحمن ونقد الحداثة»، جداول للنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2011م، ص224.
6.    د.طه عبدالرحمن، حوارات من أجل المستقبل، دار الهادي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2003م، ص13
7.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص159.
8.    د. عباس أرحيله، فيلسوف في المواجهة، قراءة في فكر طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، ص103-104.
9.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص160.
10.    د.طه عبدالرحمن، حوارات من أجل المستقبل، مرجع سابق، ص144.
11.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص151.
12.    د.محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، 1980م، بيروت، ص13.  
13.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص152-153.
14.    المرجع السابق، ص156-157
15.    يقول الدكتور إبراهيم مشروحاً معقباً على مقولة الدكتور طه عبدالرحمن لكل من يدعو إلى تجاوز التراث : «إن دعوى مجاوزة التراث وتصفية الحساب معه استجابة للتاريخانيةأو العقلانية المجردة تقع في نقيض مطلوبها، ذلك أن ذريعة التجرد من التراث ومن كل أصالة أو من كل خصوصية تاريخية إنما تخضع لمعايير هي» «نفسها ليست إلا قيماً أنتجها هذا التراث الأجنبي، وليس لها من الشمولية أو الكونية إلا ما لهذا التراث نفسه». [انظر: د.طه عبدالرحمن، حوارات من أجل المستقبل، ص12 ، 13]. [وانظر أيضاً: د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 2009، ص158.]
16.    د.طه عبدالرحمن، حوارات من أجل المستقبل، مرج سابق، ص25.  
17.    د.طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص29.
18.    د.محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي – دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1986، ص300.  
19.    د.طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مصدر سابق، ص33.  
20.    د.إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص157.
21.    د.عباس أرحيله، فيلسوف في المواجهة، قراءة في فكر طه عبدالرحمن، مرجع سابق، ص98.  
22.    المرجع السابق، ص100.
23.    د.طه عبدالرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، بيروت – لبنان (الدار البيضاء - المغرب)، الطبعة الثالثة، 2012م، ص405 – 406.
24.    د.عباس أرحيله، فيلسوف في المواجهة، قراءة في فكره طه عبدالرحمن، مرجع سابق، ص101
25.    المرجع السابق، ص91.
26.    د.طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص12.
27.    التداولي والتداولية : أي مجموعة آليات التواصل والتفاعل داخل الحضارة الإسلامية العربية.
28.    د.عباس أرحيله، فيلسوف في المواجهة، قراءة في فكره طه عبدالرحمن، مرجع سابق، ص94.
29.    د.طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص423.
**********************
نشر مقال :

استراتيجيات عقلانية التأييد في نقد التراث عند طه عبد الرحمن

فلسفة الأخلاق المؤيدة عن المفكرطه عبدالرحمن

إعداد الباحث محمد أحمد الصغير

فلسفة طه عبدالرحمن بعامة وفلسفته  الأخلاقية بخاصة، تعتمد على التجربة الحية «المؤيدة» أساساً لقيام نسقها الفكري، ولذلك يمكننا النظر إليها و«تقسيمها مرحلياً وليس منطقياً إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى، فك الارتباط بين الفلسفة عموماً ومفهوم الحداثة خصوصاً، والمرحلة الثانية، إعادة الارتباط بين الأخلاق -باعتبارها عمل وليس نظر- وبين الفلسفة النظرية عموماً، ومفهوم الحداثة خصوصاً، وبذلك يصبح الفكر النظري والعمل الأخلاقي، وجهين لعملة واحدة، والمرحلة الثالثة، تأسيس مفهوم العمل الأخلاقي على مبادئ وقيم الدين الإسلامي، وعلى قراءة معاصرة للقرآن الكريم، وذلك باعتبار الدين الإسلامي رسالة إنسانية في المقام الأول.
ترتب على هذا التصور معارضة –طه عبدالرحمن- للفكر الغربي الحديث على أساس استبعاده للأخلاق بالمعنى العملي، ومعارضته للفكر الإسلامي القديم على أساس النقص في التنظير لهذا المبدأ الأخلاقي وبالتالي أصبح من الضروري إنشاء نسق «حداثي-أخلاقي» جديد يكمل النقص في الجانبين» 1)، وهذا ما يمثل مضمون وجوهر مشروعه الفلسفي إجمالا.
قد يشعر القارئ لهذا الكتاب أن فلسفة الدكتور طه العامة، وفلسفته الأخلاقية الخاصة، تعتمد على تجربته الروحية، وهذا لا يقلل من قيمتها الفكرية والإنسانية، وإنما يثري هذه القيمة ويعمقها، فقد كونت التجربة الروحية التي خاض غمارها، وعمقت في نفس الفيلسوف مفهوماً واضحاً للعقل، والعقلانية، ومنزلة التأمل في درب السالك. إذ خلص من ذلك ان العقل هو فاعلية للإنسان ككل، وليس كياناً مستقلاً فاعلاً رفضاً للنزعة التجزيئية الغربية للعقل، ثم ربط هذه الفاعلية النظرية المجردة (العقل النظري) وبين الشعور الذاتي الداخلي (القلب) تطبيقاً لعدم الفصل التام بين الذات والموضوع.
 وعلى ذلك، يمكننا القول بأن المشروع الفلسفي الطاهائي اعتمد في نقده للحداثة الغربية وتفكيكه للمرجعيات الفلسفية على مفهوم واضح للعقل والعقلانية في مبتدأ الأمر ثم اعمال النقد الأخلاقي لهذا النموذج الحداثي الغربي. وهنا تأتي تفرقة الدكتور طه بين واقع الحداثة وروح الحداثة، التي هي قابلة باستمرار على إنتاج نماذج حداثية متعددة متكوثرة في ذات الوقت.  
نقد القطيعة بين العقل والأخلاق (إشكال العقل والخلق) :
نتيجة للنقل عن الفكر اليوناني أصبح العقل العربي بعيداً عن الإبداع والتجديد، ذلك لأنه أخذ تصورات فلاسفة الغرب عن العقل دون تمحيص، ونقلها إلى الفكر العربي الإسلامي، فانتقلت معها إشكالات العقل لديهم، وليس غريباً بعد ذلك أن نلحظ مسلمات سائدة في الفكر الإسلامي العربي قديمه وحديثه، من قبيل إشكالية الفرق بين العقل والشرع، وإشكالية الفرق بين العقل والقلب، وإشكالية الفرق بين العقل والخلق، وغيرها من إشكاليات منقولة، ليست بذات صلة بفكرنا الإسلامي العربي القائم على رؤية تكاملية للإنسان، وليست نظرة تجزيئية لأوصاله.
«لا يخفى على كل ناظر في كتابات طه عبد الرحمن أن الأصل في الإبداع والتجديد الفكري، أو قل التحرر من دائرة التقليد والاتباع،هو تقويم مفهوم العقل ذاته والعقلانية ذاتها كما تصورها العرب والمسلمون قديما وحديثا. إذ أن فهم العقل (λογος) وفق المنحى الأفلاطوني(المعنى هو رابطة طبيعية ما بين الأسماء والأشياء المسماة) أو المنحى الأرسطي (الإنسان يعرف أولا الموضوعات والأشياء ثم يفضى عليها مسميات=محاورة كراتيلوس) إنما يخلف نتائج هائلة على الفكر الفلسفي العربي الذي لا يكون إلا مرددا لأقوال اليونان. والحال أن العقل بمعنى اللغة تختلف أيما اختلاف،بل قل إن أصل اللغة عند المسلمين هي ذات أصل إلهي» 2).
لقد ورث الفكر العربي بسبب هذا النقل الأعمى لإشكالات ومقولات الفكر اليوناني تصوراً يحدد ماهية الإنسان على أساس النطقية والعقلية بدلاً من الأخلاقية، وهذا ما أدى بدوره إلى تصور وجود عقلانية واحدة، وهذا الأمر ليس صحيحا، بحسب فكر الدكتور طه الذي يرى أن العقلانية على درجات أقلها رتبة أو بالأحرى العقلانية المجردة والخالية من الأخلاق وهي التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان. أما الرتبة الثانية من العقلانية فهي المسددة بالأخلاق، والتي يختص بها الإنسان دون سواه، وهي لا تخلو من آفات كثيرة، لذا وجب أن تكون هناك عقلانية مؤيدة بأخلاق، تعالج هذه الآفات وتذود عنها لتنشد الكمال والاكتمال في النظر والعمل، إذا صح القول.
والعقل عند الدكتور طه عبدالرحمن -كما سبق القول- هو فعل قلبي، أو من أفعال القلب، لأن القلب هو محل الإدراكات العقلية، ويكون بذلك العقل ذو علاقة وثيقة بالفعل، والفعل ليس إلا فعلاً خلقياً في الاعتبار الأول، حتى يرتقي بإنسانية الإنسان ويسمو بها.

 وعلى هذا الأساس، يمكن تعريف العقل عند الدكتور طه بأنه فعل من الأفعال الإنسانية والخلقية ، ومتى علمنا أن العقل ليس على درجة واحدة ،بل هو على درجات متفاوتة و متفاضلة، فان هذا العقل بتقلبه ينتج درجات أيضاً من الأخلاقية.
«ولا أحد يعترض بأن نظرة المسلم إلى سائر الأشياء والموجودات تختلف عن نظرة غير المسلم. فالأصل عند الأول  هو (النظر الملكوتي)،والأصل عند الثاني هو (النظر الملكي). أو قل  أن للمسلم نظرين اثنين إلى الأشياء  لا ينفك يزاوج بينهما: نظر أصلي يتدبر به الأشياء هو (النظر الملكوتي) الذي يوصله إلى الإيمان،ونظر فرعي يدبر به الأشياء وهو (النظر الملكي) الذي يوصله الى العلم".ويعني هذا أن القيم العملية والأخلاقية هي التي تسهم في اجتماع الأمة، بل وخروجها من ضيق العقلانية المجردة إلى رحابة العقلانية الأخلاقية.فالعمل عند هذه الأخيرة هو الذي يلقح ويخصب الممارسة الفكرية العقلية، حتى تفسح أمامها آفاق جديدة من النظر والتأمل والاعتبار» 3.
وتأسيساً على ذلك تكون « الهمم الأخلاقية العالية هي التي تصنع المستقبل؛ لكونها تؤمن بما في يد الإنسان من إمكان لاجتراح سُبل قويمة للحضور المستخلف في الكون، بما يحفظ إنسانية الإنسان ويضمن اكتمالاته المتعددة والمتجددة، وبما يفتح آفاقه المأمولة على مآلاته المحمودة، ويمكن أن ندَّعي، من غير أن نعدم دليلاً، أن فكر طه عبدالرحمن اجتهد لكي ينتمي إلى هذه الهمم، لكونه عمل على مواجهة أعطاب الفكر العربي الإسلامي المعاصر» 4.
وعلى هذا فإننا نجد أن « التجديد مقترن لدى طه عبدالرحمن بالهمة الأخلاقية، فالتجديد ملازم للهمة الإنسانية، إذ هو التغيير المطلوب في أفق الإنسان وتحققاته الممكنة، فإذا كان الواقع تحققاً لممكنات، فإن هذا الواقع منذور للزوال، لكون ممكنات أخرى في يد الإنسان، ما تزال مستقبلة تستشرفها همة الإنسان، وتلوح في الأفق، كإمكانات تجديدية مجاوزة للواقع ومتحدية لحدوده، وواعدة بتحقق إنساني أخلاقي أكمل، ذلك أن الإنسان ليس كاملاً بل هو سيرورة من الاكتمالات، وهذه الاكتمالات موقوفة على همته الأخلاقية» 5.
ووفقاً لهذا يأتي تعريف الدكتور طه للهمة فيقول :«إن الهمة الأخلاقية للإنسان أقوى من الأمر الواقع، وأصلب من حتمية الحدث لأن الواقع القائم لا يستنفذ الإمكان الذي في يد الإنسان ولا الحتمية المنسوبة إلى التاريخ تستنفذ طاقته» 6.
والهمة الأخلاقية هي التي « تصنع القيم، بوصف القيم جسراً بين عالم الواقع والفعل الإنساني الذي يؤثر في هذا الواقع، فالواقع هو ما يقع وليس يقع في الواقع إلا ما يوقعه الإنسان كفاعل أساسي في الوجود، لذلك فالواقع يوقعه الإنسان بفعله ويرفعه بإرادته، التي تظل دائماً عبارة عن إمكان في يده، كما أن حتمية الحدث مهما جثمت على العقول، ورسخ فيها الاعتقاد، حتى صارت تؤمن بأن الواقع لا يرتفع ولابد أن تشهد تحويلاً يطويها طياً ويدك أركانها دكا، فلا تثبت إلا حقيقة واحدة ألا وهي همة الإنسان وإنسيابه في آفاق اكتمالاته التي لا تقبل بالأمر الواقع ولا بفرض الفكر الواحد» 7.
ولدرء مفاسد إشكالية فصل العقل عن الخلق نخلص إلى القول بأن «التخلق، بمعنى ربط النظر بالعمل،أو القول بالفعل،هو ما به يكون الإنسان إنسانا. كما إنه من غير المعقول أن يتخلق الإنسان في غياب غيره من الناس..إذ أن المرء يتخلق مع خالقه، فيكون تعاملا،وإما يكون تخلقا مع نفسه،فيكون هو الآخر تعاملا.وهذا التعامل الأخير متفرع عن تعامله مع الآخرين. من ثمة تكون الأخلاق هي القيم العملية الحية التي تدفع الإنسان لمنفعة الغير قبل منفعة الذات،فكلما تطلعت الذات إلى منفعة الآخرين كلما ازدادت تخلقا». 8
- آلية النقد الأخلاقي.
يعتبر كتاب «سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية» للدكتور طه عبدالرحمن، هو الآلية المنهجية المعتبرة في نقد أسس ومنطلقات الفكر الحداثي الغربي، وتجلياته المعرفية والنظرية والأخلاقية، وهو نقض يستهدف في أساسه تقويض دعائم الفكر الغربي المادي، المؤسس على قطع الصلة بين الروح والمادة، أو بالأحرى قطع الصلة بين الجانب الخلقي النظري، وبين الجانب العملي السلوكي. وفي هذا الإطار يقول الدكتور طه عبدالرحمن : «لقد اشتغلنا في كتابنا : سؤال الأخلاق، بنقد الحداثة الغربية، وأهمتنا في هذا النقد على الخصوص ممارساتها القولية والعقلية والمعرفية، فانبرينا لها نكشف عن الآفات الأخلاقية التي دخلت عليها [...] وقد بلغ تعلق هؤلاء النقاد بالحداثة الغربية أن توهموا أنها واقع لا يزول، وحتمية لا تحول، وأنها نافعة لا ضرر فيها، وكاملة لا نقص معها، فحجبهم هذا التعلق عن أن يتبينوا» 9  آفاتها الأخلاقية، ونقائصها القيمية. وقد عمل طه عبدالرحمن على تأسيس «حداثة ذات توجه معنوي بديلة عن الحداثة ذات التوجه المادي التي يعرفها المجتمع الغربي». 9
من أجل ذلك، شحذ طه عبدالرحمن، أدواته المنهجية النقدية، لإرجاع هذه العلاقة بين المعنوي (الروحي) والمادي، وتجاوز ذلك إلى نقد وتقويم النظريات الأخلاقية الفلسفية لدى كبار فلاسفة الغرب المحدثين والمعاصرين.
«ومن الأمور التي أثارها الدكتور طه أن الفروقات ما بين «Morale» و«Ethique» إنما تدل على هيمنة النظرة الأخلاقية لكانط  المقررة للتساؤلات الآتية: ماذا يجب أن أفعل؟ وكيف أحيا؟. فالتساؤل الأول يتطلع الى تقرير أخلاق موجهة الى المجتمع، والتساؤل الثاني يفضي الى تقرير أخلاق موجهة إلى فرد فرد. ثم ألم يندفع إيمانويل كانط إلى القول أن التقييد التأملي للعقل المحض، واتساع نطاقه العلمي هو أول ما يجلبه الى علاقة المساواة التي يمكن فيها أن يستخدم العقل بعامة غائيا(...)إذا كان يجب أن يكون مؤمنا، غير عصي على العبور، أو مضللا، فإنه يجب أن يمر لا محالة، بالنسبة إلينا نحن البشر عبر العلم. ويترتب على هذا، أن أفق تفكير كانط واسبنوزا لم يتجاوز اعتبار أن الأخلاق واحدة أو أنها تتأسس على الرغبة. ذلك أن الأخلاق في فكر طه عبد الرحمن هي مراتب متفاوتة ومختلفة  باختلاف درجات الشعور بالاختيار، كما إنها ليست محصورة في الجهد الذي يقوم به الإنسان للحصول على غرض معين. متى علمنا أن الرغبة تختلف، وتتغير وفق أحوال الإنسان وتحولاته المشهودة، بل أن ميولات الفرد لا تعد ولا تحصى . وهل الهوى إلا ميل النفس الى الشهوة.فضلا عن ذلك سقوط الكثير من فلاسفة الأخلاق القرسطويين والمحدثين في المماثلة المستحلية بين محبة الإنسان للإنسان ومحبة الإنسان للإله ». 10
لقد قدم الفلاسفة الغربيون تصورات فلسفية عن الأخلاق، تحتاج إلى فحص وتقويم من منظور النقد الأخلاقي الإسلامي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمثل التصور الكانطي «نموذج تبعية الدين للأخلاق، والتي مفادها أن الإنسان لدى صاحب كتاب (نقد العقل العملي) غير محتاج إلى كائن أسمى وأعلى من الإنسان لكي يعرف هذا الإنسان واجبة [...] فإذن فالأخلاق لا تحتاج مطلقا إلى الدين،بل تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص. وبهذا الاعتبار، فإن كانط لم يضع مقولاته وتصوراته الأخلاقية إلا عن طريق المقايسة والمبادلة». 11 أو كما يقول الدكتور طه عبدالرحمن: «فقد أخذ كانط مفهوم العقل بدل مفهوم الإيمان، ومفهوم الإرادة الإنسانية بدل مفهوم الإرادة الإلهية، ومفهوم الحسن المطلق للإرادة بدل مفهوم الإحسان المطلق للإله، ومفهوم الأمر القطعي بدل مفهوم الأمر الإلهي، ومفهوم التجريد بدل مفهوم التنزيه، ومفهوم احترام القانون بدل مفهوم محبة الإله، ومفهوم التشريع الإنساني للذات بدل مفهوم التشريع الإلهي للغير، ومفهوم الخير الأسمى بدل مفهوم النعيم، ومفهوم مملكة الغايات بدل مفهوم الجنة». 12
«كما انتقد طه عبد الرحمن دفيد هيوم الذي ميز بين القضايا الخبرية الوجودية والقضايا الوجوبية باعتباره يروم إلى الفصل بين الخبر في الدين والقيمة الأخلاقية. والواقع أن كل ممارسة علمية  وعقلانية محكومة بقيم ومقاصد يحملها الإنسان من حيث هي تعبير عن رؤيا للعالم(weltanschauung). إذن لا داعي للادعاء بأن القيم مفصولة عن الأنشطة الإنسانية الحسية أو العقلية.وهكذا الكثيرة للواقعة الواحدة قد تكون متباينة فيما بينها؛ لوجود تباين في المعايير التي استند إليها،على الرغم من ثبوت فائدة كل واحدة من هذه الأوصاف في نطاق نسق المعايير الخاص به. ويترتب من هذا أن دفيد هيوم هو أيضا مثلما هو الحال لدى كانط، لم يقم بإنشاء مفهومه للأخلاق أو بالأحرى الدين الطبيعي إلا بواسطة المقابسات من النصوص المقدسة وتأويلاتها اللاهوتية». 13
وبعد، فنقول إن الفكر الغربي الحداثي، جاء بمسلمات أقام عليه تصوراته الفلسفية للأخلاق، هذه المسلمات هي «لا أخلاق في العلم»، و «لا غيب في العقل»، فنرى أن وجهة النظر الكانطية والهيومية أقامت تبعاً لذلك القيم الأخلاقية على أساس عقلاني خالص خالي من الدين، أو بالأحرى منفصل ومستقل عنه، وهذه الدعوة يراها الدكتور طه فاسدة وباطلة وسبق أن قدم الأدلة على بطلانها وفسادها. ولما كان المتفلسفة العرب الأوائل ناقلين للفكر اليوناني، فقد تصوروا بأن الأخلاق كمالات، تبعاً لوجهة النظر الأفلاطونية والأرسطية، والحال أن الأخلاق ضرورات، وقد نتج عن هذا التقليد في فكرنا العربي المعاصر أن اقتفى المحدثون أثر أسلافهم، فجاءت نظرتهم إلى العمل والنظر نظرة مبتورة، بينما أن الحال غير ذلك، فلا انفصال بين الدين والأخلاق، أو بين العمل والنظر، أو بين القول والفعل، أو حتى بين الدين والسياسية.
«من هنا كان من الضروري مراجعة هذه الأفكار والتصورات المعرفية والعلمية الحديثة التي ابتلي بها الغرب المعاصر، وصدّرها إلى الأمة العربية والإسلامية المعاصرة. فاقتضت وضع مبادئ تعمل على نشل الأمة من براثين التدهور والتراجع، نحو تأسيس نظرات أخلاقية مبدعة تنبني على الاتساع في العقل، والتكوثر في الأفعال الأخلاقية، و النظرة الإنسانية الملكوتية للإنسان.كل ذلك يدفع المرء المسلم العربي إلى فتح آفاق جديدة من التفكير والإبداع». 14
- تنظير فلسفة الأخلاق (نظرية الأخلاق الإسلامية).
وضع الدكتور طه عبدالرحمن أسس ودعائم نظرية أخلاقية إسلامية معاصرة، بعد أن قام بإعمال آليته النقدية لأفكار وتصورات الغرب الأخلاقية الفلسفية، القائمة على فصل العقل عن الخلق، وما يتبع ذلك من فصل ما بين الدين والأخلاق، ثم فصل ما بين الدين والسياسة، والاقتصاد والعلم ..ليصبح بعد ذلك الدين محض إدعاءات نظرية وشعائر جوفاء تردد في جنبات المساجد والقباب!.
ويفقد الدين جوهره باعتباره منهج حياة فاعل في حياة البشر، وتفقد معه الأخلاق بانفصالها عنه فاعليتها وقصديتها وغائيتها في الحياة أيضاً.
و«يسعى الدكتور طه عبد الرحمن سعيا جادا وقويا في بناء نظرية أخلاقية إسلامية معاصرة، يضاهي بها الغرب الحديث، سواء من حيث منطلقها،  أو من حيث مقاصدها وفوائدها. ولعل من اللطائف الجليلة في هذه النظرية هو «العمل التعارفي» الذي يكون بين الأمم والحضارات. بل قل إن ممارسة المسلم للكونية تختلف اختلافا شديدا عن غيره. وذلك لأنه يعمل على تقوية تجربته الإيمانية والروحانية حتى تنهض إلى الفعل الخلقي، كما لو أن أمرا يخصه. في حين أن الغير(الغربي) يمارس الكونية من منطلق أنها نهاية العلم، واكتمالها و اطلاقيته، إضافة إلى  أنها  لم تأتيه إلا دفعة واحدة. والحال أن الفكر الكوني بين هلالين، هو فكر متدرج في مبتدئه، وأن كل الحضارات والأمم أسهمت في بنائه كلا أو جزءا، قليلا أو كثيرا» 16
«فالواقع الكوني يخطئ في تقريره للعمل التعارفي، حيث إنه يحسب أن حاجة الأمم من الأخلاق واحدة،حتى كأنها أمة واحدة، وأيضا كيف أنه يخطئ في تقريره للأخلاق؟ حيث إنه ينزل القيم الخلقية رتبة دنيا من سلم القيم. فانظر كيف أن فكر العولمة يخطئ الطريق والمسلك في تبنيه لمبدأ التعقيل الأدنى تكريس آفات خلقية على عدة أصعدة : اجتماعية وسياسية وعلمية وتقنية. ولتوضيح ذلك نقول إن السيطرة الاقتصادية في مجال التنمية يفضي إلى الإخلال بمبدأ التزكية، الذي مقتضاه هو الجمع بين تنمية الموارد وتنمية الأخلاق، والسيطرة التقنية في العلم تؤدي إلى الإخلال أيضا بمبدأ العمل، والذي مقتضاه هو الجمع بين مقتضى الحكم ومقتضى الحكمة. في الوقت الذي تتطلع فيها الثورة المعلوماتية –الاتصالية إلى الإخلال بمبدأ التواصل الذي مفاده الجمع بين مقتضى المعلومات ومقتضى تجاور بالذوات». 17
ويؤسس الدكتور طه عبدالرحمن نظريته الأخلاقية المعاصرة على عدة اعتبارات :
الاعتبار الأول : الصفة الأخلاقية للإنسان:
وهذا الاعتبار ينهض على حقيقتين مفادهما:
- أن هوية الإنسان هي هوية أخلاقية.
- أن هوية الإنسان الأخلاقية هي هوية متغيرة، بحيث «يكون للإنسان بمقتضى هذا التغير من وصف الإنسانية على قدر ما يتحقق به من المعاني والقيم الأخلاقية». 18
 
الاعتبار الثاني : الصفة الدينية للأخلاق :
فالأخلاق تبني على الدين، وليس العكس لدى ذوى المنظور المقلوب، وهناك طريقان لانبناء الأخلاق على الدين، وهما؛ إما طريق الوحي، وإما استفادة هذه الأخلاق من الدين في عمومه.
«ويترتب من هذا، أن كل المبادئ الصحيحة للفكر الأخلاقي الإسلامي المعاصر هى تحقيق التزكية، والعمل، والتواصل، إذ بها يكون في مكنت المرء المسلم أن يتلافى الآفات الخلقية، التي وسمت الفكر العولمي الكوني الحديث، بعبارة أدق نقول إن تخطى هذه الاعضالات يتمثل في طلب مبدأ الفضل، الذي هو المزاوجة بين «تزكية الحال» و«تزكية للمال» التي من فوائدها ومقاصدها الارتقاء بالإنسان وخلق بيئة عالمية سليمة». 19
وبناء على ذلك، يحدد الدكتور طه أهم الخصائص التي تمتاز بها هذه النظرية الأخلاقية الإسلامية فيما يلي:
أولاً : أنها أخلاق مؤسسة على الشرع (الدين).
ثانياً : أنها أخلاق متعدية إلى العالم كله، والبشرية جمعاء.
ثالثاً : أنها «أخلاقا شاملة لكل أفعال الإنسان، ذلك لأن كل فعل عقلي يصبح فعلاً خلقياً ». 20
«من المعلوم أن الفكر الأحادي لم يتوان عن الانشداد إلى النظر الملكي، الذي لا يقع نظره أو عقله إلا عل الظواهر والقوانين في عالم الأشياء والماديات، وهو الأمر الذي زج به إلى الاعتقاد الراسخ في أفضلية قيمه وتصوراته وعلومه، مما نتج عنه وقاحة الإحاطة والاستعلاء،ووقاحة الاجتثاث لقيم الآخر من الأمم والحضارات، بل أكثر من ذلك اعتقد هذا الفكر الوحدوي(الأحادي) أنه رسخ حقوق الإنسان والمواطنة بما لم تأت به الثقافات البشرية عبر التاريخ. كل ذلك من شأنه أن يخلف آفات خلقية، تتجاوز المعاني الأخلاقية والمعنوية، التي تقوم على أساس مبدأ التفصيل الموجه والتوسيع المعنوي، ومبدأ التراحم، الذي يؤدي إلى أفضل الأفعال وأجلها وهو ازدواج الشعور بالذات والشعور بالغير،و التعلق بالقدوة والاتصاف بصفات الله الحسنى..ومن قبل ومن بعد،الاستغراق في اسم الرحمان وتأمل وتدبر «المقاصد وقيمه في مخلوقاته». فانظر كيف تؤسس النظرية الأخلاقية الاسمية المعاصرة في فكر طه عبد الرحمن لمسار الحداثة الإسلامية». 21
*****
وفي الختام، نقول إن العقلانية المسددة برغم اشتغالها بالعمل الشرعي، والممارسة الفقهية، إلا إنها تعتريها الآفات، ومن بينها آفات أخلاقية، وتحتاج هذه العقلانية المسددة، التي تجاوزت العقلانية المجردة من الأخلاق إلى زيادة في التعرف إلى الله والاشتغال به، وهذا ما يدفعها إلى سلوك درب التأييد، الذي يكون فيه القول منضبط بالفعل والنظر بالعمل، والغيب متعلق بالعقل، ولا انفصال في ذلك، هذا العقل المؤيد أو العقلانية المؤيدة تعتمد في الأساس على فعل التخلق الدائم والمتجدد باستمرار، والذي به تعمر دنياها وآخرها، لأن المتخلق يعلم أن الله «يراه رؤية لا تنقطع»، أو كما يقول الدكتور طه في كتابه سؤال الأخلاق، لهذا جاءت نظريته الأخلاقية المعاصرة قائمة على الدين أصلاً وتأصيلاً، لتضاهي نظريات الفكر الغربي مقطوع الصلة بالدين، وبالتجربة الروحية «الحية».
 
محمد أحمد الصغير
باحث مصري مقيم في الكويت

************************
الهوامش :
1.    سمير أبو زيد، مقال منشور على موقع فلاسفة العرب، تاريخ مراجعة محتوى الموقع الالكتروني، 7/2/2013م.
-www.arabphilosophers.com/arabic/aphilosophers/acontemporary-names/ Taha_Abdulrahman /Arabic_ Article.
2.    يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر،بيروت-لبنان، الطبعة الاولى،2012، ص93
3.    مرجع سابق، ص98.
4.    إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن، قراءة في مشروعه الفكري، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 2009، ص45.
5.    المرجع السابق،  ص47.
6.    طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ص60
7.    إبراهيم مشروح، قراءة في مشروعه الفكري، مرجع سابق، ص47.
8.    يوسف بن عدي ، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن، سبق ذكره، ص100.
9.    عبد الرحمن، روح الحداثة. المدخل الى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2006، ص15.  
10.    روح الحداثة، مرجع سابق، ص16
11.    يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن، سبق ذكره،ص 102-103، راجع كتاب:" سؤال الأخلاق" لطه عبد الرحمن،سبق ذكره ، ص16 الى18.
12.    مرجع سابق،ص 104.
13.    عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، مرجع سبق ذكره، ص33
14.    يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن،سبق ذكر،ص105
15.    المرجع السابق،ص110.
16.    المرجع السابق،ص111.
17.    المرجع السابق، ص112.
18.    طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، سبق ذكره، ص147
19.    يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن، سبق ذكره،112.
20.    طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، سبق ذكره،  ص159
21.    يوسف بن عدي، مشروع الإبداع الفلسفي العربي، قراءة في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن، سبق ذكره، ص 116.

******
 
نشر بتاريخ الأربعاء, 01 كانون2/يناير 2014 20:11 
http://www.islammaghribi.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%B7%D9%87-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86

عادل الرشيدي يبعث الأمل من جديد في روايته «حينما يبتسم القدر»

 
لا يمكن إغفال عنوان رواية أ. عادل الرشيدي التي طرحت في الأسواق بعنوان «حينما يبستم القدر» فالعنوان يمثل عتبة النص الأول عند النقد والتحليل، وقد جاء العنوان يحمل معه الأمل، ويبعث على التفاؤل، ويؤكد على عمق التجربة الايمانية التي تؤمن وتسلم بالقدر وفاعليته في الحياة وقدرته على تبديل الامور والاحوال وتغير الاحداث والشخصيات، فتارة يبتسم القدر، فتمطر الأرض وتتوحد الصفوف وتزدهر الحياة بالمباهج وتارة يغضب القدر، فتمطر الارض وتتوحد الصفوف وتزدهر الحياة وتعج بالمباهج وتارة يغضب القدر، فتسود المحن ويحل الكساد في العقول والشح في الأنفس بما كسبت ايدي الناس!! هذه الفاعلية القدرية التي ليست بمعزل عن الارادة البشرية هي ما نتابعه في احداث الرواية التاريخية بأحداثها المهمة، فها هو القدر ينادي رجالاته الأشاوس، وينفخ في أرواحهم اليقين ويبث في ارادتهم العزم والهمة، كي ينهضوا بالمهام القدرية المنوطة بهم.
 
الملك عبد العزيز آل سعود

 الذي يتابع احداث الرواية يكتشف ان عنوانها لا ينفك عن مضمونها، فبطل الرواية الملك عبد العزيز آل سعود هو نجم بزغ نوره في ليل حالك في تاريخ الامة، جاهد وناضل من اجل نصرة الحق وتحقيق الوحدة والاتحاد من بعد التشرذم والتفرق الذي ساد جزيرة العرب، كما ان العنوان يبين للقارئ اللبيب ان الانسان ليس مفصولا في هذا العالم عن قدره وان هذا القدر سطر في اللوح من الازل، ويرى القارئ كيف ساعد القدر بطل الرواية وألهمه وأرشده إلى توحيد الصف، وابتسم له ولأعوانه لينشروا التوحيد ويعلوا كلمته.

بوح المؤلف

 يفتتح المؤلف روايته الرائعة ببوحه عن رؤيا عجيبة رآها في احدى الليالي القمرية، رأى في منامه الملك عبدالعزيز آل سعود واقفا في صحراء واسعة شاسعة! وعن يمينه خيمة عربية اصيلة «بيت شعر» رابضة في مكانها لا تحركها الريح أو يخفي ملامحها الغبار. في دلالة من الكاتب على عظيم صنيع الملك «وعن شماله اسد وشبل وقد حفت به حيوانات مختلفة منها الاليف والمفترس والأخيرة تهجم على الاولى التي تفر منها بأمان وقد طالتها مخالب الاخرى غير انها تكف عنها»، ثم فجأة تغير كل شيء واينعت الارض وبدأت في الازدهار والازدهار وقائل يقول: «هذه سلة الزهور لا تنبت الا في جزيرة العرب».
وهي بداية تشعر القارئ من الوهلة الاولى انه امام عمل روائي لا يقل اهمية عن الاعمال الروائية التاريخية العالمية التي تناولت عظماء العالم وسردت تفاصيل حياتهم الخاصة والعامة، وتذكر القارئ ثانية بأساطين الادب الروائي اللاتيني «جارسيا ماركيز - باولو كويلو- والشاعر بورخيس» وغيرهم من شعراء وأدباء ينتمون الى تيار ادب الواقعية السحرية الذي يمزج الواقع بالخيال، والحقيقة بالسحر والخرافة!!
فنرى مثلا في احدى روايات ماركيز «مائة عام من العزلة» ان احدى الشخصيات الروائية ينمو لها ذيل!!
كان هذا المنام أو «الرؤيا الصادقة» هي دافع الروائي الكويتي عادل الرشيدي الى استكمال مشروعه الذي يحلق في فضاءات تاريخية غاية في الاهمية لحقبة زمنية ممتدة منذ سقوط الخلافة العثمانية حتى تأسيس الدولة السعودية الحديثة ووفاة زعيمها الملك عبد العزيز رحمه الله الذي ناضل وكافح من اجل رفعة راية التوحيد عالية خفاقة.
وفي بوح المؤلف يفتتح فيقول «فللدول اعمار، ومعيار أعمارها وامتداده هو العدل».
تشعر من البداية انك امام روائي امتلك اداته بحكمة ومهارة شديدة، ناهيك عن هضمة واستيعابه لجميع الاحداث التاريخية التي تناولها.

السرد الروائي والسرد التاريخي

 في البداية احب أن انوه الى ان الكتابة عن التاريخ باستخدام طرائق السرد الروائي هي من اصعب انواع الكتابات، لعدة اسباب يعود السبب الاول الى ان التاريخ يعد مادة جافة تعتمد على التسلسل الزمني واللغة التقديرية الخالية من المحسنات لان غايته هو الاخبار التوثيق للحدث بينما السرد الروائي في معالجته للتاريخ يميل الى الانتخاب والانتقاء لاحاديث بعينها دون غيرها الى جانب التكثيف والاختزال، ذلك ان غايته الامتاع وهو يبعد عن اللغة التقريرية الاخبارية ويلجأ الى الخيال واللغة الادبية التي تزيد من امتاع القارئ وتثري عقله ووجدانه! وهذا ما نهض عليه اسلوب الكاتب عادل الرشيدي في روايته «حينما يبستم القدر» الذي جاء اسلوبه سهلا وجميلا، ينتقي فيه مفرداته بدقة، ويختار جمله الحوارية بشكل يليق لكل شخصية.
والصعوبة الثانية من الايدلوجيا «التكوين الفكري» الذي احيانا يتحكم في عقل الكاتب الروائي فلا يمكنه الكتابة عن شخصية تاريخية مشهورة بغير وجهة نظر واضحة وصريحة ومعلنة مسبقا، وجهة نظر الكاتب في الشخصية التي قام بالكتابة عنها واضحة وصريحة فهو معجب اعجابا شديدا بشخصية الملك عبد العزيز آل سعود وهو يعمل في روايته على انصافه وينقل للقارئ بعد ان ينتهي من قراءته للرواية شعور بعظمة هذا الزعيم والمناضل العظيم مؤسس الدولة السعودية الحديثة.
وقد حاول الرشيدي ان يخفف من وطأة المادة التاريخية لهذه الفترة الثرية المكتظة بالأحداث فقام بتقسيم روايته الى ثلاثة فصول، الفصل الاول «26 صيفا»، والفصل الثاني «26 خريفا»، والفصل الثالث «25 شتاء» وهو يستعيض عن التتابع الزمني بتتابع فصولي «نسبة الى فصول السنة الأربع»، وهناك سببا لغياب فصل الربيع عن فصول روايته يدل على جودة الحبكة؟

 فصول الرواية
حدد المؤلف فترة زمنية لفصله الاول «25 صيفا» ما بين «1896-1902» وهي تقريبا سنوات بدأها بالكويت وانتهى الى الرياض.
فيكون لدينا امتداد زماني ومكاني محددان، واحداث تجري وشخصيات تتحرك وتتفاعل وتصدر فعل وردود فعل، كل ذلك يدلل ويؤكد على حقيقة مفادها اننا امام كاتب متمرس يستعمل ادواته الادبية واسلوبه السهل الآخاذ ليحيل مادة التاريخ الجافة الى خيال روائي يتحرك ويتفاعل في نسيج سردي وبنائي محكم ورسم دقيق لتفاصيل الشخصيات والاماكن والانفعالات.

الكويت

 يبدأ الفصل الاول مكانيا بالكويت وزمانيا 1898 وينتهي مكانيا بالرياض زمانيا 1901، يرسم الكاتب تفاصيل مدينته الكويتية بمهارة فائقة كرسام ماهر يعرف كيف يحرك ريشته بداخل لوحته الفنية.
واكثر ما لفت نظري في الفصل الأول الكيفية التي كان ينتقل بها الكاتب ما بين الأماكن والاحداث، فهو ينتقل بمهارة فائقة دون ان يشعر القارئ بأن ثمة قطع «أو نقل» قد حصل، وهذا يذكرني بالعمل الفيلمي الذي يعتمد فيه الكاتب على ادوات اخرى المزج والقطع للنقل بين المشاهد.

الشيخ مبارك الصباح

 النقلة التي فعلها الكاتب عندما تحدث عن مؤامرة الاغتيال التي يدبرها يوسف الابراهيم للشيخ مبارك بمعونة حاكم حائل في ذلك الوقت، هذا الانتقال ما بين الاحداث بهذه الطريقة التي ابتكرها عادل الرشيدي يذكرني بالمونتاج السينمائي.
أصابت الرصاصة هدفها، فيشعر القارئ انها الرصاصة الغادرة التي جاءت وليدة المؤامرة ولكنه سرعان ما يكتشف انها حيلة ذكية قام بها المؤلف فالرصاص والبارود يخترق جسد نخلة.
ولغة الحوار في الفصل الاول لغة سهلة وطيعة رغم انها تحافظ على فصاحتها الا انها في كثير من الاحيان تشعر القارئ بقربها من قلبه ووجدانه وكأنها لغة حديثه العادي «العامي» ويتصاعد الحدث الدرامي منذ بداية الفصل الاول، لنرى كيف ان بطل الرواية قلبه يحترق حسرة على ملك آبائه ويتحين الفرصة لاستعادة مجده وملكه الذي فقده بسبب الخلافات الاسرية التي وقعت، وتفتح عين الكاميرا رويدا لنشاهد المكان الذي يقيم فيه البطل الروائي مع ابيه الامام عبد الرحمن، ونعرف انها ارض الكويت التي آل بها مستقرهم الاخير «اخذت الذكريات تبحر به من لجوئهم الى البحرين ثم قطر واخيرا الى الكويت».
وفي قاعة القصر الملكي يجلس اعيان ووجهاء الكويت في صمت، يستمعون الى حديث الشيخ مبارك الكبير، ويوافق شيخ الكويت على خوض المعركة ضد ابن رشيد بعد ان حاك المؤامرات ضده ويؤيده في حربه آل سعود واعوانهم من آل مهنا وآل سليم، ويجتمع جيش كبير للجيش مبارك ويكون فيه الشاب عبد العزيز على فيلق كبير من الجيش ليتوحد الهدف في القضاء على ابن رشيد.
وقد احكم الكاتب وصفه لتفاصيل المعركة التي دارت رحاها، فكأنك تشعر بتحرك خيول الجند وصوت طلقات البارود ودخانها وتشتم رائحة الدم الممزوج برائحة البارود!!

الفصل الثاني «25 خريفا»
الخريف في حياة الملك عبد العزيز
ما يروى عن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود انه كان مواظباً على قيام الليل، حتى في اشد اللحظات قسوة وصخباً.. وهذا يدل على عمق شجرة الإيمان التي ترسخت في نفس الملك، الذي قال عنه المؤرخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد «الملك عبدالعزيز داهية العرب!!».
في الخريف.. تتساقط أوراق الأشجار الذابلة، وتتخلص الأزهار من أوراقها التالفة، وتنتفض الأنفس كانتفاضة الاشجار في فصل الخريف!.
والخريف الذي حل في حياة الملك عبدالعزيز كان خريفاً ذا معنى وقيمة بحسب الرواية، فها هو الملك يخلص دولته من كل المؤامرات التي تحاك ضدها وكل المعارضين الذين ينفخون نار الفتنة، ويسقط أعداءه كما تسقط الشجرة أوراقها التالفة، استعداداً للأزهار مرة أخرى، فهو يستبدل ملكاً جائراً، بملك أخر مؤسس على العدل والحق ونصرة الضعفاء واعلاء كلمة «لا إله إلا الله» وهدم كل دعائم الوثنية القديمة.

الاحتفال بالنصر في أرض الكويت

 يبدأ الفصل بحبور وبشرى عمت أرجاء ارض الكويت، ففي قصر الشيخ مبارك جاء الإمام عبدالرحمن يهنئ الشيخ على نصره على عدوهما واسترداده لمدينة الرياض، بعد ان قتل عاملها هناك.
لبس الامام اجمل حلة لديه وسار الى قصر الشيخ مبارك يصحبه ابناءه فيهم تركي وسعود ابناء عبدالعزيز، فما ان دخل على الشيخ وحوله رجاله وأعيان الكويت حتى علت على وجهه البهجة.
الشيخ بتوتر: هل فعلها ابني يا أبا فيصل؟
الإمام بفرح: نعم لقد استرد ابنك الرياض وقتل عامله.
وعلى الفور امر الشيخ مبارك امير الكويت آنذاك ومؤسس الدولة الكويتية الحديثة بإعداد الولائم وتجهيز الاحتفال بهذا النصر المؤزر وقال مقولته الشهيرة في «الملك عبدالعزيز» وقد التف حوله رجاله وأعيان الكويت ينصتون باهتمام شديد.
«لم يخب ظني به أبداً فقد رأيت تميزه دون غيره من الغلمان لما ووطأة قدماه أرض الكويت، وخلال نشأته لم يلهى بما يله به الشبان، بل أقبل على العلم وتعلم الفروسية»، وواصل الشيخ مبارك حديثه للامام عبدالرحمن قائلاً: «سأذودكم بالمال والمركب الذي يوصلكم وكذلك سأرسل معكم دليلي الخاص مشلح بن هدبه الرشيدي، مع أنه يشق علينا فراقكم»، وتفيض عينا الإمام عبدالرحمن بالدمع حزناً على فراق الشيخ مبارك وأهل الكويت ويقول شابا جابر لقد كنت نعم الجار ونعم الصديق لنا، فأهل هذا البلد أهلونا ونحن أهلهم كذلك.
واحتفلت الكويت أميراً وشعباً بنصر الملك عبدالعزيز، وأطلقت الأعيرة النارية في سماء الكويت فرحاً بالنصر، ووزعت الأطعمة على أهلها، وبعد ايام غادر الامام عبدالرحمن وعائلته وأعوانهم عائدين إلى بلادهم.

عبق تاريخ وحضارة بلاد الجزيرة
يجيء حديث مختصر على لسان احد ضباط الامبراطورية البريطانية آنذاك، يدعو الى التأمل استطاع الكاتب ان يقتنصه من كتب التاريخ وان يحضره الينا في صورة روائية توحي بالرمزية والابتكار والاسقاط على الواقع المرير الذي تعانيه أمتنا.. فها هو الضابط الانكليزي يقول «لقد خدمتنا الدولة العثمانية حين اهملت جزيرة العرب مهد رسالتهم، ولا يعلمون بأن - فرقتهم وتناحرهم - إنما يخدم اهدافاً سياسية» لبلادنا التي تعمل بقاعدة قديمة وهي فرق تسد!
عندما يأتي هذا الحوار على لسان أحد الشخصيات الأوروبية يكون حواراً ذا معنى وله دلالة، فليس الغرب كله اسود وليس الشرق كله ابيض، وانما هناك ما بين الاسود والابيض تدرجاً للرمادي او بالأحرى هناك ايجابيات وسلبيات، والعقل الذكي هو العقل الذي يفلح في الاستفادة بالأشياء الجميلة وترك الاشياء القبيحة لأصحابها!
وهذا ما فعله الملك عبدالعزيز فهو يتحالف مع الغرب من اجل توحيد دعائم دولته، ويأخذ من الغرب ثمرته لينقل لأبناء شعبه الخير والهناء، لينعموا بحياتهم بعد ان قاسوا شظف العيش لسنوات، وهذا عين ما فعله الشيخ مبارك بذكاء وحنكة من اجل ان يصون بلده ويحافظ لها كرامتها وعزتها ويحميها من الاعداء المتربصين بها في كل مكان، ولا مضرة في ذلك ولا عيب ما دام وراء هذا التعاون خير لأبناء الشعب قد لا تعيه العقول الصغيرة!.

والملاحظ في هذا الفصل بالذات تركيز الكاتب الكويتي الرشيدي، على الرابطة الابوية الاعتبارية التي كانت بين الشيخ مبارك امير الكويت وبين ابنه الملك «عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود»، هذه الرابطة كانت تقويها التحالفات والفزعات التي كانت يفزعها كلا الطرفين من اجل نصرة بعضهم البعض، فالملك عبدالعزيز سرعان ما هب لنجدة ابيه الشيخ مبارك عندما استنصره لتأديب المناوئين له في الحكم، وجاء الملك عبدالعزيز آل سعود ورجاله مدافعين عن الكويت واستقبلهم الشيخ مبارك بكل فرح وسرور كاستقبال الاب لأبنه الذي غاب عنه قرابة العامين.

اهتمام الروائي بوطنه الكويت
مرة اخرى نلحظ اهتمام الروائي ببلده الكويت، فيرصد لنا وفاة الشيخ مبارك، ويروي لنا كيف جاءت الجموع وعلى رأسها الملك عبدالعزيز من اجل التعازي.

«سار عبدالعزيز الى الكويت يصحبه بعض من افراد اسرته وخاصة رجاله، فقدم التعازي للشيخ جابر بوفاة والدهما، ثم اقام عدة ايام فلما اراد المغادرة، قام الشيخ جابر بعناقه بحرارة شديدة وبادله الملك عبدالعزيز مشاعر الاخوة واثنى عليه وقال له سنكون سند لكم كما كنا ايام والدنا الشيخ مبارك - رحمه الله -.
يملتئ الفصل الثاني «25 خريفا» بزخم في الاحداث وتنوع في الشخصيات ومن اكثر الشخصيات الاجنبية التي رصدها الكاتب شخصية الانكليزي «هاري فليبي» الذي اسلم على يد الملك عبدالعزيز واصبح اسمه «عبدالله فليبي».
هاري فليبي بعد إسلامه


ختام الفصل بالشعراء
ويختتم الفصل الثاني بعنوان رائع «الشعراء»، وعلى الرغم من ان الشعراء منطقة بغرب الرياض الا انني ارى ان الكاتب دفع بهذه الكلمة ليلفت النظر الى محبة الملك عبدالعزيز لأهل العلم واهل الفصاحة والبيان واغداقه للأموال والهدايا عليهم، وقد اخذ الملك يخطب في اهل الشعراء قائلاً بعد ان اثنى على الله وصلى على نبيه المختار: «لم تردع المفسدين موعظة.. ولم يحجزهم الاسلام.. ولم يمنعهم عهد.. ولم يفيد فيهم عطاء.. ولم يؤلف قلبهم معروف!!، فلما حضر الغد، حضر - أهل منطقة الشعراء بغرب الرياض - وأخبروه بأنهم على عهدهم وتحت أمره فليرى ما فيه خير للرعية».

الفصل الثالث «25 شتاءً»
بناء حقبة من الماضي
نفتتح تحليلنا واستقراءنا النقدي للفصل الثالث «25 شتاءً» من رواية «حينما يبتسم القدر» بمقولة شهيرة لـ«كنكور» يوضح فيها علاقة الرواية بالتاريخ فيقول: «التاريخ رواية ما وقع، والرواية تاريخ ما كان يمكن ان يقع».
وهذا يدفعنا الى القول إن الفصل الثالث من الرواية بدت فيه اهم الملامح التي تحدد سردية النص الروائي وهو ينفتح على التاريخ لإنتاج الرواية التاريخية، فالرشيدي اعاد بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية تتداخل فيها الشخصيات التاريخية مع شخصيات اخرى «متخيلة»!!، وهنا نجد حضور للمادة التاريخية لكنها مقدمة بطريقة ابداعية وتخيلية رائعة، وهذا يتفق مع كون الرواية التاريخية عملاً سرديا يرمي الى اعادة بناء حقبة من الماضي وفق قواعد الخطاب الروائي.
فعندما يحكي لنا راو في مجلس خبراً يقدمه لنا من خلال شخصيات تاريخية معروفة لدينا وفي فترة زمنية محددة بالسنوات وفي مكان معروف جغرافياً وتاريخياً، نكون امام خبر «تاريخي» يريد من خلاله مرسله التأكيد على صحة الخبر ووقوعه فعلاً في الزمان، اما عندما يسلب مرسل اخر الخبر بعده التاريخي، ويقدمه غفلاً من اي ايحاء الى زمان مضى، ويرهنه بجعله يجري في زماننا نكون امام خبر «غير تاريخي» ونتعامل معه بكيفية مختلفة، يجمع بين الخبرين البعد السردي، وطريقة الخطاب التي قدما لنا من خلالها، فيكون ذلك باباً آخر يمكن ان نتلمس فيه الفروقات بين الخطابات من حيث بعدها التخيلي، والوظائف التي تضطلع بها انطلاقاً من طبيعة النص، ومختلف ما يعتمل فيه لتحقيق ابعاده الجمالية والمعرفية.
يبدأ الفصل بعنوان طويل نسبياً «مملكة نجد والحجاز وملحقاتها» وهو عنوان كثيراً ما نطالعه في كتب التاريخ، وزمانيا يحدد الكاتب سنة 1931 مسرحاً لبدء احداث الفصل الى سنة 1953 وهي سنة وفاة الملك عبدالعزيز آل سعود، بعد ان ارسى دعائم دولته الفتية الحديثة، ويختم الكاتب روايته بالوصية وصورة قديمة لجريدة «البلاد السعودية» وبها نعي وفاة الملك.
الاحداث تتلاحق في هذا الفصل بشكل مثير للدهشة فمنذ بدء بعثات التنقيب عن الذهب الاسود في ربوع المملكة، وبعد وقوع الحرب العالمية الاولى في الفصل الثاني من الرواية «25 صيفاً»، ونحن نلحظ اهتمام الغرب والعالم بهذه الدولة التي اخذت تتشكل ملامحها على ايدي جلالة الملك الهمام «عبدالعزيز آل سعود» فهو الذي حث بعثة التنقيب الامريكية بعد ان ملت وكلت من البحث والحفر عن النفط لمدة ستة سنوات كاملة في التنقيب، وبعد ان وجدت النفط في السواحل الغربية للبلاد، غير ان هذا النفط الذي عثر عليه لا يكفي حاجات البلاد ولا يرضي طموحاتها، وهنا استعير عبارة الرشيدي قائلاً في فصل روايته «فكادت البعثة ان تتوقف لولا حث الملك لهم بالصبر والمثابرة، فاستمروا اشهراً حتى تفجر النفط فجأة! واخذ يتطاير في الهواء ثم يسقط عليهم».

الشيخ أحمد الجابر
ينتقل الروائي في خفة ومهارة فائقة ليقدم لنا المنظر المشهد الذي يلي هذا المشهد على التوازي في بلاده، ويبين فيه أواصر القربى والحميمية التي جمعت بين أمير البلاد الكويتي «الشيخ أحمد الصباح»، وملك البلاد السعودية «الملك عبدالعزيز» لصد أطماع الغاشمين والطامعين في الرزق الجديد الذي تفجر بالكويت.

والنقل السريع الذي يمتاز به سرد المؤلف ما بين السعودية والكويت هو نقل ضروري، أو تحتمه ضرورة سردية وأدبية اذا جاز التعبير، فليس الكويت مفصولاً عن بلاد الحجاز وليس الحجاز مفصولاً عن ارض الكويت وانما الاثنين يمثلان اذرعاً لجسد واحد يواجه الخصوم ويردع الاعداء.
فبعد ان بانت اطماع حكومة العراق في الهيمنة على نفط الكويت، حشدت السعودية قواتها على سواحل الكويت، بعد ان اخذت الضوء الاخضر من اميرها آنذاك «الشيخ أحمد الصباح» - رحمه الله - فقمعت الفتنة من الكويت وهرب من هرب إلى العراق، وجاء تحذير شديد اللهجة من الملك عبدالعزيز ينذر العراقيين من مغبة التصرف بحماقة تجاه الدولة الكويتية العربية الاسلامية الشقيقة، ثم دقت طبول الحرب العالمية الثانية او الحرب الكونية كما يسميها الرشيدي في روايته.

اليهود وفلسطين
وجاء الرئيس الامريكي «روزفلت» على احدى البوارج الامريكية مقعداً على كرسي ذو عجلات، لطلب من جلالة الملك «عبدالعزيز» ان يخفف لهجته الشديدة المعادية للسامية، وجاءه الرد مفحماً وقوياً من الملك، الذي قال في فخر وإباء «لن أصمت ابداً عن قول الحق، واليهود استوطنوا اراضي فلسطين بعد ان لفظتهم أوربا، أفلم يجدوا سعة في اراضيها حتى يرحلوا الى بلادنا».

وفي حوار شائق استطاع الرشيدي ان يعطيه ثقل تاريخي ينقل لنا دفاع الملك عبدالعزيز عن ارض فلسطين، ثم وقعت الواقعة! فور انتهاء الحرب العالمية الثانية وقامت دولة اسرائيل على الدم والقتل واغتصاب الارض، فثارة ثائرة جلالة الملك عبدالعزيز، ودافع عن الحق العربي والاسلامي في فلسطين وسلح المجاهدين وحثهم سراً على الجهاد من اجل استعادة الارض المقدسة! ولكن دون جدوى!.
فالغرب والعالم يساند قام اسرائيل، والعرب - كل العرب - آنذاك دول ضعيفة لا تقوى على مجابهة هذا المتغطرس الامريكي ومعه شوكته الصهيونية التي زرعها في ظهر الجسد العربي كي يحكم سيطرته ويزيد من ايلامه.
ومن اكثر الاشياء التي اثارت انتباهي في اول فصل «25 شتاءً» هي قدرة الراوي الكاتب السارد على الانتقاء والاختيار ما بين الحقب الزمانية والشخصيات الواقعية، ليعزز من رؤيته المسبقة، فالكاتب اراد ان تكون روايته توثيقا لسيرة كوكب من كوكب الامة العربية، قل ان يجود به الزمان ثانية، «وحدة الامة وشد من ازر حلمه في رؤية وطن يرفع راية التوحيد، بعدما وهنت الامة، واصبحت عرضة لكل ريح تعصف بها».
الذي يعاب على الرشيدي
الذي يعاب على الاستاذ عادل الرشيدي كاتب الرواية شيء واحد فقط، فبرغم امتلاكه لموهبة ادبية رصينة واسلوب يتحاور به مع القارئ ويخلق من خلال مفرداته شعور طيب يترك اثره لدى القارئين الا انه دائم البعد عن الجانب الرومانسي والعاطفي في حياة شخصياته ولعله يحاول بذلك عدم ابتزاز مشاعر القارئ وتقديم شيء مختلف له، او لعل التزامه الشديد بتعاليم الدين هو ما جعله حريصاً بشدة على عدم دخول الاسفاف في اعماله، وهذا يفتح لنا بابا في مناقشة المشاعر الرومانسية البريئة في علاقتها مع الادب الملتزم الذي يمكن تصنيف الرشيدي باعتباره رائداً من رواده.
بقلم : الأستاذ محمد أحمد الصغير
ناقد وباحث من مصر

المقال منشور على مدونة الروائي : http://novelistalrashidi.blogspot.com/2013/12/blog-post_12.html