الاثنين، 25 نوفمبر 2013

تهافت الحداثة بين أبو حامد الغزالي والفيلسوف طه عبدالرحمن



بقلم الباحث: محمد أحمد الصغير

  سئل  طه يوما هل عاش التجربة العرفانية كما عاشها الغزالي

فقال:« لا يجمعني أنا وإياه إلا خوض غمارها؛ فلم أدخل فيها فارّاً ولا شاكّا كما دخل فيها؛ ذلك أن الغزالي فرّ إلى التصوف اضطرارا، بينما أقبلتُ عليه اختياراً.                     الدكتور / طه عبدالرحمن

************

بين تهافت الفلاسفة وتهافت الحداثة بان كبير، زمانياً ومكانياً، وإذا كان قديماً إبداع الأصولي العربي المشرقي أبو حامد الغزالي، كتابه «تهافت الفلاسفة» ليؤكد على قصوره في لبس عباءة الفلاسفة وعدم استطاعته الخروج منها، إلا بعد أنكارها ووصمها بالتهافت والسفه، وهذا ما دعى الفيلسوف المغربي القديم ابن رشد يبدع كتابه «تهافت التهافت» ليرد به على الدعاوي والانتقادات التي قدمها الغزالي القديم لدحض أفكار المتكلمين المتفلسفين وأظهار عوارها. وبغض النظر عن بيان القيمة النقدية لكلا العملين الإبداعيين القديمين، فإننا لسنا في أطار التقييم والنقد وإنما قصدنا بيان الشبه بين العنوان الذي أثاره الغزالي القديم، والمعنى الذي تناوله الغزالي الحديث أو من حق له اللقب عن جدارة، في كتابه روح الحداثة، والذي أبان فيه عن قدرة عقلية فلسفية جديرة بالتقدير، ليؤكد استطاعته دون أن يخلع عباءة الفلسفة، على نقدها وتقويض دعائمها من داخلها وباستخدام مصطلحاتها ومفرداتها التي هي وقف على أهلها. 

  وظاهرة التهافت في تراثنا العربي الإسلامي تؤخذ على محملين، المعني الأول التهافت من الإقبال بشدة، والتهافت بمعنى السفه والدنو، فيقال شخص تافه، أو شيء تافه، أي ليس له قيمة في ذاته.

أما المحمل الأخر الذي تحمل عليه الكلمة فيتناوله الدكتور عبارس أرحليه بالنقد قائلاً في كلمته: «ظاهرة التهافت على حداثة الفكر الغربي والتهالك عليها، والدخول إلى الحداثة تحت رايته، وبتأثير من توجيهاته. مع التعويل على ذلك الفكر في كل حركات الحياة. وهي فترة بلغ فيها المد العلماني منتهاه، وكشر فيها الإلحاد عن نابيه، وصار علامة على الرقي الفكري والموقف الثوري. وانفجرت فيها الكتابة حول مفاهيم الحداثة. وبدأ الإبداع العربي يتشكل وفق التقاليع النقدية في الغرب وأضحت فيها المناهج سُحُباً عابرة، يجتمع حولها الناس ثم ينفضون  في انتظار ما تجود به قرائح غيرهم. ولعل أهم ما أثار د. طه عبدالرحمن في مشروعه ما لاحظه من طغيان التقليد في حركة الحياة في عالم الإسلام، وما لامسه من تأثيرات الفكر الفلسفي الغربي في مسار الفكر الإسلامي العربي المعاصر. ورأى أن المنتسبين إلى ملته قد تقطعت بهم الأسباب فانقطعوا عن قيمهم وصاروا قُطعاناً يزحفون على أرض جرداء.

والواقع أن كثيرا من المفكرين العرب تعاملوا مع الفكر الغربي باعتباره النموذج للفكر العلمي، وسعوا بكل الوسائل إلى إقناع بني جلدتهم بهذه الفكرة. وظلوا يضعون الحواشي تلو الحواشي  على مجموعة كتب ومقالات شكلت لديهم مرجعية الحداثة»([1]).


وعلى هذا يمكن الجزم بأن تهافت الحداثة الذي أبانه المفكر المغربي في كتابه روح الحداثة، وحاول باستخدام المنهجية العلمية نقد وتقويض دعائم هذا الصرح الشاهق الذي أقامه العقل الغربي، ليدلل ويؤكد على مركزيته وتعاليه على ما عداه من ثقافات أخرى، ضاربه في عمق التاريخ الإنساني، وأبدعت أفكاراً أكثر نضجاً وجدارة من أفكاره المادية الخربة، وأكدت على ديموميتها واستمراريتها وبقائها من خلال إبداعات حضاراتها القديمة وليس أدل على ذلك من الميراث الفكري والإبداعي للحضارة العربية الإسلامية، الذي تكفل بالحفاظ على الأرث الإنساني للفكرانية، من خلال ترجماته وشروحاته العديدة.

ويرى الدكتور عباس أرحيله المشروع الطاهوي آتي ليعزز هذه النظرة الأصيلة التكاملية إلى تراثنا ونقد الحداثة وفق منهجية منطقية اعتمدها تعيد الثقة والوثوق بالحضارة العربية والعلم العربي وسائر مخرجات العقلية العربية الإسلامية. «ما هو جدير بالتقدير في مشروع د. طه عبد الرحمن أنه اجتهد في كل ما ذهب إليه، وأنه أعاد النظر في واقع التفكير عند المسلمين والعرب، كما أعاد النظر في مقومات الحضارة الغربية، وغايته رفع الحجر عن أمة الإسلام. وقد عمل على استنباط روح الحداثة من مجاله التداولي الإسلامي، وظل رافضا لكل ما يتنافى مع الوحي الذي تقوم عليه حضارة الإسلام. والخلاف الجوهري بينه وبين أصحاب المناهج الحديثة أنهم غَيَّبوا الغيب من مشاريعهم، وغَيَّبوا عقولهم في المجال التداولي الغربي، وفصلوا ما بين العلم والعمل؛ فكانوا ما كانوا. فلا غرابة أن يُصبح اليوم  معلمة فكرية، ورمزا من رموز الإبداع في العالم الإسلامي.ويظل د. طه يتقد إيمانا، وينهمر إبداعاً، ويزداد عزة وشموخا، ويؤسس لروح حداثة إسلامية؛ تُحرر المسلمين من إسار التبعية، وتكشف لهم مكامن العزة في دينهم، وتعلمهم كيفية التفكير في حياتهم بأنفسهم. فهو القائل: لا استقلال للمسلمين ما لم يقتحموا التفكير بأنفسهم»([2]).

وبرغم أن الغزالي الحديث صاحب روح الحداثة قام في ديار الغرب  ونهل من أفكارهم القديمة والحديثة إلا أنها في نهاية تجربته المعرفية تمرد على هذه الحضارة الغربية وواجهها بالحوار وبالتقويم. ولم يصيبه تكوينه الأول في ديار الغرب، واستفادته من فكره، قديمه وحديثه؛ بالخنوع والاستسلام، والانصياع لهولها وفتنتها، والسبب يعود في رأي الدكتور عباس إلى «أن تلك الحضارة لم تلتهم كيانه في لحظة التكوين، ولم يتضاءل أمامها، ولم ينخدع ببريقها، أو يتساقط أمام إغراءاتها، ويتصاغر أمام ادعاءاتها. فتجده يكشف عن ضلالاتها وأزماتها وآفاتها؛ وإنقاذاً للهائمين في عشقها، المتهالكين على بريقها، الواقعين في أحابيلها؛ يتصدى لتقويمها على مقتضى عقيدته الإسلامية، في لحظة يزداد فيها صلف المستكبرين في الأرض بغير حق ويتجرع فيها الذلة والمسكنة المنتمون إلى الإسلام، وتتمدد فيها خريطة أهل النفاق والخيانة والاستخذاء. فتزداد التبعية والتواكل والخذلان. وتُحاصر أفكار الشعوب بما يُبقي على مصالح الغرب ويضمن له الهيمنة على المعمور»([3]).

من أجل هذا الطرح المعتبر حق لهذا الفيلسوف أن ينال اللقب عن جدارة في أن يصبح غزالي عصرنا المعاصر، ليجدد النظر إلى الفكرانية والتراث، ويقدم نقده للحداثة بعد أن تهافت عليها مفكرينا العرب، ويبين تهافت دعائمها ومقوماتها التي نهضت ورسخت أقدامها من خلالها، مستعملاً في ذلك آلياته الإبداعية للمنطق والمنهجية البحثية الرصينة. فكان بحق غزالي حداثي امتاز عن الغزالي القديم بميزات عدة أهمها أنه إعاد الثقة بالفلسفة والفكرانية مرة أخرى بعد أصبحت مثار ريبة وشك لدى الأصوليين من أبناء الأمة الخلصاء.

ويأتي معنى قريب من هذا على لسان الدكتور طه عبدالرحمن في  نهاية كتابه اللسان والميزان أو التكوثر العقلي:«وإنما كان كلُّ هَمِّنا أن نبنيَ معرفةً نافعةً ونأتيَ عملاً صالحاً، والمعرفة نافعة عندنا ما أتت بجديد  ُثري العقل ويزيد في العلم، والعمل الصالح عندنا ما فتح طريقاً يُفيد الغيرَ والآجلً كما يُفيد الذات والعاجلَ»([4]).

وكما انتقد الغزالي القديم، أريب عقله وزمانه، ابن رشد، تعرض أيضاً د.طه ومشروعه إلى النقد، «فظهرت كتابات معادية قليلة، همها طمس هذا المشروع بنفي الأصالة عن صاحبه، ورميه باتهامات تتنافى مع نزاهة الفكر العلمي الموضوعي، وتنم عن مشاعر تحمل عداء وحقدا. وفي مجمل كتبه ردود على منتقديه، كقوله لهم، على سبيل المثال، في خاتمة الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري؛ إن انتقاداتهم لم تصدر عمن اشتغلوا «بصناعة التنظير على أصولها؛ فإذا هم وجدوا من بني جلدتهم من يسعى أن يدلهم على طريق هذه الصناعة أو يضع لهم بعضَ معالمها، اتهموه بكثرة التفريع أو إرادة التعقيد، أو، إذا تكرموا عليه، نسبوا طريقته إلى الاحتراف البيداغوجي، وهم في ذلك لا يُفرقون بين مقتضيات البناء ومقتضيات الإلقاء»([5]).

وختاماً نقول كما قال المفكر المغربي عباس أرحيله عن د.طه عبدالرحمن؛ فحين قرأ ثقافة الغرب ازداد معرفة بحقيقة تراثه، وزاده علمه إيماناً ويقينا، ومنحه عزة نفس تأبى عليه أن يمتهن كرامته في التقلبات الفكرية بدعوى التفاعل مع المناهج الحديثة. فقد وجد أن مكمن الخطأ في مقلدة العصر من متفلسفتنا ومفكرينا يتجلى في تقلباتهم الفكرية في كل الاتجاهات، وفي اندفاعهم([6])» «في تقليد فلاسفة الغرب الذين يصدرون في إنشاء أفكارهم عن أسباب لا وجود لها عندنا»([7]).

محمد أحمد الصغير – باحث مصري

الكويت 20/3/2013

Moahmedelsagher@hotmail.com


  الهوامش :

1.   مقتطف من الكلمة التي ألقاه الدكتور عباس أرحليه ، يوم 11 مارس 2006 بمقر   منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين- بعنوان«نظرة في المشروع الفكري للدكتور طه عبد الرحمن». ص
2.    المرجع السابق. ص44
3.    المرجع السابق. ص32.  
4.     اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، د.طه عبدالرحمن - ص 406.
5.    مقطع من كلمة الدكتور عباس أرحيله مرجع سابق ص38. 
6.    مقطع من كلمة الدكتور عباس أرحيله مرجع سابق ص30. 
7.    حوارات من أجل المستقبل ( ضمن : قضايا إسلامية معاصرة)، ص 137










هناك تعليقان (2):

  1. تسلم يا باشا , اعانك الله ووفقك

    ردحذف
  2. حاول تكتب في الاحداث اللي تهم الناس لان تحليلات لها بعد فلسفي جيد

    ردحذف