الجمعة، 29 نوفمبر 2013

إبداعات فكرية وإشراقات عرفانية عند المفكر طه عبدالرحمن



إعداد الباحث محمد أحمد الصغير
الدكتور طه عبدالرحمن أحد الفلاسفة المعاصرين الذين تميزوا بإبداع مشروع فكري فلسفي حداثي، أمتاز بعدة ميزات أهمها: الإبداع والاستحداث والتجديد، ليس في الفلسفة فحسب وإنما في العمل أيضاً. فلم تعد الفلسفة معه محض نظر وتأمل خالص وخالي من العمل، ولم يعد العمل شيء لا يعتد به في اعتبار النظر، أضحى الاثنين يدوران في فلك واحد ويرتبط أحدهما بالآخر ارتباط العلة بالمعلول والدال بالدلالة وما أكثر كلمات الفيلسوف التي تأتي في هذا المنحى وتسير في هذا المسار ابتداء من كتابه «العمل الديني وتجديد العقل» ومروراً بكتابه سؤال العمل ثم سؤال الأخلاق وغيره من الكتب التي تبحث في ضرورة العمل وأهميته وأنه يشكل روح الإنسان، وبخاصة الإنسان العربي إذا أرد لنفسه أن يخرج من عباءة التبعية والتقليد ويعيد تركيب حضارته والنظر إليها من جديد. والعمل نوعين عمل ينتفع به وعمل غير صالح، وليس للإنسان غاية في الحياة ينشدها غير العمل الصالح النافع الذي ينتفع به وينفع به غيره.
هكذا تكون الأخلاق في أجلى معانيها، ليست أخلاقاً نظرية ولا محض إدعاءات فكرية وإنما ضمانة لثبات العالم الإنساني وعدم اهتزازه أو اهترائه أو تخليه عن ماهيته التي خلق عليها! يقدم طه الأخلاق ضمانة لفلسفته وكل نتاجاته الفكرية، حتى أداته النقدية يصطنعها من الأخلاق بعد أن يمزجها بالمنطق، فيأتي نقده للحداثة نقداً أخلاقياً صريحاً وأبداعه للحداثة البديلة أبداعاً خلقياً، يبدأ بالتربية الخلقية الفاضلة، وهذا يذكرنا بالمدينة الأفلاطونية المثالية التي بناها أفلاطون على المثل والقيم والمبادئ العالية الرفيعة.
وعندما يذكر طه عبدالرحمن، فإنه بالتبعية يتم استحضار أداته المنطقية التي اصطنعا في صبر وأناة حتى أصبح واحد من أكبر المناطقة العرب في المنطق الصوري، فلا يخلو كتاب من منهجية منطقية وأفكار وضعت بدقة وصيغت بحنكة تذكرنا بإبداع فنان الأربيسك العربي الإسلامي القديم، تشكيلات هندسية ولكن في صورة فلسفية هذه المرة! وليست في صورة زخارف وفسيفساء.
المشروع الفلسفي بين الإبداع والإشراق
ليس المقصود بالإبداع الفكري هو أن نقوم برصد كتاباته ومؤلفاته الفكرية الإبداعية والحديث عنها، وأن كنا سوف نفعل ذلك ولكن في معرض غير هذا المعرض، وإنما قصدنا من هذا العنوان اللطيف «الإبداع الفكري لمشروعه الفلسفي» أن نرصد مع التحليل والوعي المقاصد الكبرى التي جاءت لأجلها فلسفة الفيلسوف طه عبدالرحمن.
وغاية الفلسفة الطاهائية هي غاية نبيلة، وأن كان يصعب على غير المنتمي للمشروع الإسلامي أن يقبلها، ذلك لأن المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين، منقلبين على أنفسهم ما بين داعي إلى حداثة غربية وما بين مقلد لإصالة دون نقد أو تمحيص ناهيك عن الاتجاهات الفكرية والتشرذمات العقلانية التي تجد لها من يبرر وجودها من وجودية أثنة وماركسية متناقضة وعبثية لا أنزل الله بها من سلطان، وتيارات سياسية تنازع في موتها..ويبقى المشروع الإسلامي وحيداً منصرف عنه كل ذي عقل وكل ذي فهم لبيب! لأن هذا الحاصل ليس محض صدفة أو عبث إنما هو سنه من سنن الكون! فإنصراف الناس عما فيه خيرهم أمر أن تحدثنا فيها فلا تكفي هذه الورقات، فالنفس والعقل البشري جبل من القديم على الهروب مما ينفعه ويصلح من شأنه ويهدي قلبه ويشرحه، إلا من رحم ربي وشرح صدره للإسلام فلا يجد صعوبة في تنافسه، إما الذي أغلق الله قلبه فكأنما يصعد في السماء، فالصعوبة دائماً تواجه وتطارده في الاصطلاح والتركيب والنقد والتمحيص، ولا يقبل حقائقه إلا رغم أنفه، وعندما يجد من المستشرقين من يثنى عليه، سرعان ما يبدل فكرته ويخلع عباءته التي زركشها بالعقلانية والمنهجية وفحواها ليست إلا كراهية خبيثة للإسلام ومبادئه، وينادى في الناس أليس هذا دينكم، وكأنه ولأمر مرة يجد فيه الحقيقة ويجد فيه المحاسن  والمزايا التي عثر عليها المستشرق في بحثه!
وفي هذا الخضم الهائل من التشرذم الفكري، وجدت ثلة من الإصلاحيين والمفكرين النابهين، وكان منهم هذا الولي([1]) الصالح والمفكر الملهم طه عبدالرحمن.
والإبداعات الطاهائية الفكرية المستحدثة يمكننا اختزالها في الآتي هي :
الإبداع الأول : تأسيس حداثة إسلامية
الإبداع الثاني : تأسيس نظرية تقويمية تكاملية للتراث
الإبداع الثاني : طرح فلسفة جديدة  (فقه الفلسفة / فلسفة الأخلاق والدين)
أما أركان مشروعه الفلسفي فقد ارتكزت على عدة محاور أساسية هي :
المحور الأول : التشقيق اللغوي والنحت المصطلحي :
المحور الثاني : الإبداعي الفلسفي الخالص أو ما يعرف بفقه الفلسفة.
المحور الثالث : التقويم التراثي والإبداع الترجمي
المحور الرابع : هدم نموذج الحداثة الغربية وتأسيس نموذج حداثي بديل
المحور الخامس : الإشراق العرفاني ودوره في نضوج العقل الكامل.
خمسة محاور في رأيي هي من أهم المحاور التي قام عليها المشروع الفلسفي الطاهائي، يأطرها جميعاً منهج منطقي تحليلي، صاغه صاحب المشروع في مهارة وحنكة مناطقة زمانه وعصره.
ولنناقش كل محور بشكل من الإيجاز الغير مخل، والتفصيل الغير ممل.
المحور الأول : التشقيق اللغوي والنحت المصطلحي :
أكثر شيء شغل فكر الدكتور طه في بداياته الفكرية، كان مسألة فقه اللغة والأصول اللغوية للفلسفة، لأن اللغة هي حاملة الفكر وهي أداة التعبير عنه، وقديماً قال الفيلسوف اليوناني سقراط لأحد تلامذته «تكلم حتى أراك» والكلام جزء من اللغة. ومسألة اللغة هي من أكثر المسائل حضوراً في ذهنية الفيلسوف، وصعوبة (أو سهولة) الفلسفة لو وجدت فإنها توجد بالأساس في لغتها، فتكون اللغة والاصطلاح هي «كارت العبور» للدخول إلى التفلسف الصحيح . ومن لا يملك لغته لا يملك عقله!
لذا جاء إدراك الدكتور طه لهذه المسألة مبكراً، وقد حشد لها كل ما أمكنه من عدة لغوية واصطلاحية بأحدث ما جد في فقه اللغة واللسانيات، وأفضل ما استحدث من نظريات جديدة تعالج المسائل اللغوية والفلسفية الشائكة.
وقد عبر عن هذه المسألة في كتاباته الأولى بعدما تبلورت في ذهنه واختمرت عقله، فقال: «على الفيلسوف، قبل أن يتجه باجتهاده إلى التوعية بقدرة لغته الفكرية أن يميز لغته عما ليس من لغته، أو يتعارض ولغته عما هو لغو ..ولغونا يظهر في التشويه الذي لحق أصول لغتنا وبُناها وكبت فلسفتها [....]، وعلى الفيلسوف العربي أن يخلصنا من هذا اللغو الذي حال دون تحررنا العقلي، ودون إبداعنا الفكري، وبهذا تكون رسالة الفيلسوف العربي رسالة لغوية من منطلقها»» ([2]).
بمهارة وخفة شديدة استطاع أن يمسك بمشرط اللغة ويبدأ في تشقيق ألفاظها واستخراج الجديد منها كأفضل جراح لغوي، لا يباريه في ذلك مفكرى زمانه الأفذاذ. يحفر في بنيات اللغة ويحرك اللسان حركات لطيفه وخفيفة، مريداً بذلك معرفة المسافات البينية التي تربط الحرف بالحرف وتعطي للكلمة منطوقها واللفظ دلالته!
ويمكننا الإقرار بأن هذا المنطلق اللغوي والاصطلاحي كان من الأعمدة الرئيسة في مشروع الدكتور طه الفلسفي، فلا يخلو كتاب من كتبه من حفر لغوي جديد واستعمال لألفاظ راكدة، في إشارة منه إلي أن إهمال اللغة يحدث الانتكاس الفكري، والركود المعرفي، ويفسح المجال لرواج لغة الأخر، الأكثر قوة ومدنيّة، ولا يغيب عن أحد كم المفردات الغربية ذائعة الصيت في تراكيبنا اللغوية ومباحثنا الفكرية، ووراء ذلك ترجمة ليس فيها إبداع أو نقد أو تحليل، فجاءت ترجمة إتكالية تقتات على طاولة فكر غيرها.
المحور الثاني : الإبداعي الفلسفي الخالص أو ما يعرف بفقه الفلسفة.
وفيه يتخلص الفكر الفلسفي العربي والإسلامي على السواء، من نظيره الغربي الذي ارتقى وتصدر ركبه، وساقه ورائه كالظل، الذي يتبع صاحبه حذو النعل بالنعل.
وقد اصطنع الدكتور طه ذلك فقه جديد اسماها فقه الفلسفة طلب فيه تحرير القول الفلسفي والمفاهيمي من التبعية والتقليد وذلك حتى يتحقق الإبداع الفلسفي المنشود بإنتاج فلسفة عربية إسلامية أصيلة.
وتأسيس فقه فلسفي يدرس ظواهر الفلسفة ويعالج مشكلاتها يعبد الطريق أمام المتفلسفين العرب المسلمين، ويمهد إمامهم إمكانية إنشاء فلسفة إسلامية خالصة.
وقد أفرد الدكتور طه لهذا العلم الجديد كتابين من أهم كتبه، الكتاب الأول عالج فيه علاقة الفلسفة بالترجمة، لما للترجمة من أهمية، فعن طريقها تعرفنا إلى فلسفة اليونان وعن طريقها تم النقل بسهو أو بعمد ما لا يليق بنا، وعن طريقها حدث اللغط لدينا وانتقل إلى فكرنا المختلف إشكالات ليست تمس قضايانا الحقيقة بشكل جوهري.كالإشكالية التي تفرق بين العقل والقلب وأخرى تقيم تعارض بين العقل والشرع وثالثة تؤكد انسداد الطريق بين العقل والخلق، وكلها إشكالات تم نقلها، دون التمحيص في فحواها، وقد تناولها الدكتور بالتحليل الدقيق في كتابه سؤال العمل،  ثم انه عن طريق الإبداع الترجمي يحصل لدينا ما يمكن أن نقول تجديد نظر في الفلسفة برمتها!  إما الكتاب الثاني فعالج  فيه قضايا فلسفية أو الأقوال والمفاهيم الفلسفية، وكيف يمكننا الاشتقاق والحفر المفاهيمي الفلسفي.
ولم يكن هو أول المنادين بتحرير القول الفلسفي من التبعة والتقليد، فقد سبقه إلى ذلك كثير، فلدينا مفكرين كثيرين نادوا بإنشاء فلسفة عربية إسلامية تشبهنا وتعبر عنها، ولكن الإبداع الحقيقي الذي أتي به الرجل هو الآلة الجديدة التي قدمها أو العلم الجديد الذي بادر بتأسيسه.
المحور الثالث : التقويم التراثي والإبداع الترجمي
من أجل إنجاز مشروع الفلسفة العربية الإسلامية الخالصة، لازم أولاً  أن نقف على القديم ليس موقف القاطع لرحمه ولا موقف الناقض لبناءه وإنما موقف الناهض المقوم لتراثه وأرثه، ولا يحصل ذلك إلا بالنقل الصحيح عن المصدر وليس مجرد النقل فقط وإنما الإبداع مع النقل. ومسألة التراث تثير العجب لدى مفكرينا، ابتداء من زكي نجيب محمود وانتهاء بعبدالله العروي وغيره من مفكرين أمثال الجابري وأركون.
المحور الرابع : هدم نموذج الحداثة الغربية وتأسيس نموذج حداثي بديل
نظر الفيلسوف من حوله ومن ورائه فوجد المفكرين متدافعين نحو مسلكين، فهذا يدعو إلى تراثه وأرثه وذاك يدعو إلى حداثة وتجديد وما بين الفريقين كما بين السماء والأرض من بون واتساع. ولست أدرى كيف يتسنى الجمع بين ذلك وذاك!
ولكن طه استطاع أن يفعل ذلك، بعد أن جادت ذهنيته بأفضل ما لديها من أفكار تجديدية وأصلاحية.
فها هو يدعو إلى تقويم التراث القديم ثم تأسيس الحداثة البديلة منتقداً في ذلك أشد الانتقاد نموذج الحداثة الغربية السائد والذي لحس عقول مفكرينا العرب!
- الإشراق العرفاني ودوره في نضوج العقل الكامل.
تأسيس «فلسفة إسلامية»، تأسيس «حداثة إسلامية»، تأسيس «اصطلاح إسلامي»، كل هذه الأفكار العظيمة آتت من عقل كامل ومتسع ومؤيد بقين عرفاني قل أن تجد مثله لدى مستهلكي السلعة الفلسفية من موردها الأصلي الغريب عن ثقافتنا ذات الهوية المخصوصة!
ولا يعرف تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر لدينا نحن العرب فيلسوف شاع عن كتاباته ومؤلفات، لفظة إسلامية غير هذا الفيلسوف المرموق. فكل كتاباته وأن لم تذكر إلا في القليل ذلك صراحة إلا أنها في فحواها ومحتواها دفاع عن حق الاختلاف العربي والإسلامي على السواء، اختلاف في العقلانية، واختلاف في الحداثة واختلاف حتى في الاصطلاح المنثور بين طيات الكتب الغربية هنا وهناك.
دافع الرجل عن العقل العربي المسلم المختلف، فليست مكوناته المعرفية مثل مكونات نظيره الغربي، وليس منطلقاته كمنطلقات الأخر. ولأن العقل هو أداة الفكر فكان لازم عليه الشروع في نقده وتمحيصه ثم إعادة بناءه وتركيبه على أرضية جديدة وخالية من الإنتكاسات، الفكرية أو الاصطلاحية.
والعقل عند طه ليس على درجة واحدة وإنما هو درجات، فهناك العقل المستقل عن الدين، وهذا هو العقل المجرد النظري، وهناك العقل المسدد والمؤيد بالدين، وهو على ضربين أو أن شئت قل درجتين : عقلانية مسددة لا تخلو من آفات سلوكية ومعرفية وأخرى مؤيدة، حصيلة التجربة العرفانية، التي خاض غمارها الدكتور طه، وأورثته يقيناً عرفانياً مؤيداً. عرف به ما وراء الحدود وما وراء العقل، وأبصر بنوره الحقيقة في سطوعها، والنور في إشراقه.
المشروع الفلسفي الطاهائي والإشراق العرفاني
كنت قديماً أتساءل في حيرة  لماذا المستشرقين الغربيين كثيري الاهتمام بمبحث التصوف الإسلامي، ولماذا الدراسات الفلسفية بالأخص هي من ترعى ذلك وتغذيه وتنميه حتى أضحى درس التصوف الإسلامي يدرس في أشهر الجامعات الغربية، بجامعة السوربون قسم خاص بالدراسات الإستشراقية وبداخل القسم تخصص عن الدراسات الصوفية بالتحديد؟
سؤال وجدت إجابته في تجربة الدكتور عبدالله الشارف وهو يحكي عن نفسه : « وقد يكون من العوامل المباشرة أيضا؛ إعجابي الشديد بكتاب ومفكرين فرنسيين دخلوا في الإسلام عن طريق التصوف وانبهروا بالتراث الصوفي الإسلامي، وشرعوا في نشر هذا التراث ترجمة ودراسة كما عكفوا على ممارسة الحياة الصوفية، سواء على الطريقة الفلسفية أو الطرقية، وأذكر من بين هؤلاء الكتاب، الباحث والفيلسوف الصوفي رونيه كينو، الذي أنهى حياته في القاهرة وعرف بعد إسلامه بالشيخ عبد الواحد يحيى، وترك مؤلفات صوفية وفلسفية، وأخرى في نقد الحضارة الغربية. ومنهم روجي غارودي الفيلسوف الماركسي المعروف الذي أسلم وكتب في الحضارة الإسلامية بأسلوب فلسفي وصوفي، ومنهم أيضا ميشال تشولد فسك الأستاذ الجامعي صاحب الأبحاث والتآليف في التصوف الإسلامي، وأمثال هؤلاء كثيرون في فرنسا وباقي دول البلاد الغربية. وناهيك عن المحاضرات والندوات التي تعقد في موضوع التصوف والرسائل والأطروحات الجامعية التي تتناول تاريخه ومجالاته ومظاهره. وحلقات الذكر على الطريقة الشاذلية أو النقشبندية إلى غير ذلك مما يتعلق بالممارسة الصوفية»([3]).
وطه عبدالرحمن لم يختار أن يكون من أهل العرفان كما اختار عبدالله الشارف قبل سلوكه درب التصوف، وإنما وجد الدكتور طه عبدالرحمن نفسه في ذلك الأمر منذ صغره ومذ وعت عيناه ضوء الشمس، وفقه قلبه حب الله والوجود والخلق أجمعين.
حتى يصار يسمع للشجر تسبيح وللمطر تهليل وللخيل صليل وتكبير! هكذا تحدث الوجود إليه وهكذا أبصرت عينه حقيقة الخمرة والغياب مع الحضور في الحضرات!
فأبدع عقله نظرة كلية للأشياء يرى كما رأى من قبله الشهيد سيد قطب جزئيات هذا العالم الصغيرة تحركها يد قوية تجمع هذه الجزئيات والتفاصيل الصغيرة في تشابك وانسجام.
وكأن هذا المرتكز هو الداعم لفلسفة عبدالرحمن كلها، فليس العرفان هو ذلك النسق المعرفي الذي نراه سائداً والشائع بيننا وبين درويشنا !!، وإنما هو النضوج والاكتمال وأجلى درجاته تظهر في بلوغ العقل درجة الرؤية الموسعة للوجود كله. وهي نظرة كلية يرى فيها الرائي الكون غير مجزئ وغير منفصله أوصاله ولا مقطعة، وإنما يرى الرابط بينها جميعاً، يرى بعقله ويعمل ارداته، فلا العمل منقطع عن الفكر، ولا الغيب بمعزل عن العقل.
ونحن نرى أن التجربة الروحية التي مر بها المفكر العقلاني طه عبدالرحمن كان منعطفاً مهماً في حياته وهي التي أدت به إلى أحداث أنقلاب فكري في كينوته ومسيرته الفلسفية، ويرجع السبب في ذلك إلى نشأته الأولى في بيته والده، حيث يروى طه ذلك عن نفسه قائلاً : نشأت «في بيت جعله والدي، مدرسة ظل يشتغل فيها بتحفيظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمتون العلمية، وبتدريس أصول العقيدة وأحكام الفقه»([4])
ويؤكد طه في كتابه العمل الديني وتجديد العقل على أن اللقاء الذي جمع بينه وبين الولي الصالح كان سر في توسع مداركه وفهمه وانفتاح عقله على الكون يربط تفاصيله وأجزائه المتعارضة معاً بشكل كلي، فتصبح أكثر تناسقاً وانسجاماً وكأن هناك نغم يحركها ولا تخرج عنه قيد أنمله.
وهو يتحدث عن التجربة الروحية كيف كشفت له كل ذلك وأثرت عليه وفكت القيود عن فهمه وعقله ووجدانه فيقول «فضل التجربة الحية على العمل المجرد كفضل العمل على النظر المجرد»([5]).
والذي يتخيل طه مجرداً من الفلسفة فسوف يتخيله مريداً يتردد على المزارات ويحضر الحضرات والموالد ويردد الأذكار.
وقد أثارت هذه الظاهرة عدة إشكالات منها كيف يستقم لرجل المنطق (ذي تكوين منطقي تحليلي) أن يخلع عباءة المنطق ويرتدي بدلاً منها خرقة الصوفية وأهل العرفان؟ وهذا الاعتراض الممقّوت هو ما يقيمه أعداء المشروع الطاهائي على الدوام من أجل نسفه وتقويض دعائمه وتدمير بنيته التحتية ومسلماته الفرضية.
وحتى نتمكن من الرد على هذا النقد الذي يحاول إقبار المشروع الطاهائي في هذه الزاوية، يجب أن نعطى التجربة الروحية قيمتها وحقها داخل النسق الفكري الطاهائي، فبفضل التجربة الروحية التي خاض غمارها الفيلسوف توسعت مداركه العقلية، وبناء على ذلك يمكننا الإقرار بأن التجربة الحية هي التي أمدته بالتصور المفاهيمي والميتافيزيقي عن العقل ودرجاته. وقد عبر الفيلسوف بنفسه عن هذه المسألة قائلاً : «لقد كان لكتابي العمل الديني وتجديد العقل علاقة وطيدة بالتجربة الصوفية [...]، فقصدي الأول كان هو أن أبين كيف أن التجربة الروحية لا تتعارض أبداً مع المعرفة العقلية، بل إنها قد تكون سبباً من أسباب إثراء هذه المعرفة والتغلغل فيها».
فمنذ أن تولى طه التدريس بالجامعة أستاذاً للمنطق وفلسفة اللغة في السبعينات من القرن الماضي،  وهو يسعى إلى جعل المنطق في أطار الاشتغال الفلسفي، والاعتماد على أدواته، فليس للمتفلسف العربي حظاً ولا نصيب مع التفلسفي بغير الاعتداد بالعدة المنطقية، وهو من أجل هذه المهمة ناضل وجاهد مع أساتذة الجامعة القدامى. ونظراً لتوجهاته الإسلامية الصريحة في كتاباته ومقالاته وحواراته، فهناك من يعاديه وينتقده بحجة كيف يتفق لرجل المنطق الذي يدعو إلى الخروج من عباءة التبعية والتقليد أن يقوم هو بالتنكر لأفكاره وأن يتبع طريقة ومربي ويؤمن بهذه الترهات؟! وهذا الدعاوى الهاوية إنما جاءت من عقل به من العطب ما به، ومن نفس بها من الشح ما بها. فالذي يقول مثل هذا الكلام نسى أن الدكتور طه من أكابر المناطقة العرب في عصرنا الحالي، وإنه إلي جانب تخصصه في المنطقيات واللسانيات والفلسفيات، فهو أيضاً لديه تكوين روحي راقي، يضاف إلى ذلك تكوينه الأصيل في مضمار العلوم الشرعية خصوصاً علم أصول الفقه، وهذا ما جعله مفكراً أصيلاً، وعزز من مكانته العلمية والمنطقية والفلسفية والشرعية أيضاً.
وفي الختام نورد المقولة الشهيرة التي قالها طه عن شيخه وهو يحاضر في أحدى محاضرته، فقال : (العارف الرباني والأستاذ الكبير شيخي وسيدي الحاج حمزة بن العباس، جليل أفضائله علي لأنه بصرني بالحق الذي يدمغ الباطل، ومدني بنور القلب الذي يجلي ظلام الكون، وما ألقيه الساعة عليكم إن هو إلا قبس من نور التربية التي تلقيتها على يديه، وقطرة ارتشفتها من بحر معرفته).
وسواء كان هذا المدح جاء في أطار الاعتراف بالجميل أو إقراراً لحقيقة ما، فلا يمكننا تمرير الكلمات وما جاء بها مرور الكرام. فالكلمات والعبارات التي  وردت، لا تحتاج إلى استخدام آليات البحث والحفر الدقيق لإثبات أن صاحبها صوفي النزعة والانتماء لا تشوبه شائبة، يؤمن بما يؤمن به أهل الطريق من أفكار، ويترقى عنهم درجة في مراقى المعرفة، لأنه ينتقد ما لديهم من أغلاط وأوهام.
إعداد الباحث المشرقي
محمد أحمد الصغير


الهوامش :

1- لا نقصد بالولاية كما يتبادر إلى الذهن لدى بعض من لديهم اعوجاج وإنما أولياء الله هم عباده، قد تكون أنت ولي لله ما دمت تداوم على طاعته وتشهد بوحدانيته وتقر بربوبيته وقد يكون أشعث أغبر وله عند الله ما له من فضل، ولو أقسم على الله لأبره. الذي نقصده هو المعنى الصريح للآية الكريمة (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس آية: (62- 63)] فقد قرن الله ولايتهم له بمحبتهم فيه وجاهدهم لأنفسهم، وطه عبدالرحمن عبداً طائعاً  لله أرشده إلى هداه وألهمه تقواه ولا نزكي على الله أحداً، وإنما هذا رأينا في الرجل فيما رأيناه ولمسناه في أعماله الفكرية الداعية إلى مكارم الأخلاق وعلو الهمم.

2-  طه عبدالرحمن، الأصول اللغوية للفلسفة، مجلة دراسات فلسفية وأدبية الصادرة عن الجمعية الفلسفية بالمغرب، السلسلة الجديدة، العدد الأول، 1976 1977.  

3-  في أطار حديث الدكتور عبدالله الشارف عن تجربته الصوفية، فهو يبين أن من بين الأسباب هذا السبب في انتشار الإسلام الصوفي في أوربا/فرنسا.

4- د.طه عبدالرحمن ، «بين يدي التجربة الدينية الحية»، مقدمة كتاب العمل الديني وتجديد العقل، الرباط، منشورات بابل، الطبعة الأولى، 1989، ص2. وقد ألغيت هذه المقدمة من الطبعات التالية لهذه الكتاب، ومعها إلغي الإهداء الذي كان موجهاً لشيخ الطريقة الصوفية البوتشيشية.

5- د.طه عبدالرحمن ،المرجع السابق، ص27.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق